تونس | عقب جلسة استماع شهدها البرلمان التونسي أول من أمس، شنّ محافظ البنك المركزيّ، الشاذلي العيّاري، هجوماً معاكساً على الحكومة التي حمّلته مسؤوليّة تصنيف البلاد في «قائمة (أوروبيّة) سوداء للدول الأكثر عرضة لمخاطر تبييض الأموال وتمويل الإرهاب»، وانتهى بتقديم استقالته استباقاً لجلسة سحب الثقة منه التي كانت مبرمجة أمس. لم تمرّ تصريحاته بهدوء، إذ فتحت باب الردود الحكوميّة المضادة، وأشعلت نقاشاً عاماً يذهب أبعد من مسألة التصنيف، ليُلقي الضوء على مجمل الرهانات الاقتصاديّة المتعثّرة بعد سبع سنوات من سقوط نظام بن علي.
منذ 2011، لم يمكث مسؤول سامٍ في منصبه بقدر ما مكث الشاذلي العيّاري. انتخبه المجلس التأسيسيّ على رأس البنك المركزيّ في منتصف 2012، وبقي حتى ليلة جلسة سحب الثقة منه، والتي كان مفترضاً أن تُعقد أمس. لكن ذلك لا يعني أنّ رجل الـ85 عاماً الذي تقلّد حقائب ومسؤوليات في كلّ أيام ما بعد الاستقلال، كان دائماً مُرضى عنه. ومن باب التدليل على ذلك، فقد كشفت النائب عن «نداء تونس» صابرين القوبنطيني، قبل أيام، أنّها طالبت منذ 2016 بتغييره، لأسباب ثلاثة تبنّتها (للصدفة؟) السلطة التنفيذيّة في قرارها الأخير بإحالة إعفاء العياري على البرلمان: المساهمة في تدهور قيمة العملة، لأنّ البنك المركزيّ مكلف طبقاً لقانونه الأساسيّ بـ«ضبط السياسة النقديّة وتطبيقها»؛ عدم تطوير الدور الرقابيّ «للجنة التحاليل الماليّة» التي يرأسها؛ عدم تطوير المعاملات الماليّة بتشبثه بالصيغة الحاليّة لـ«مجلة الصرف». وبخصوص النقطة الأخيرة، قالت القوبنطيني إنّ العياري أجاب خلال جلسة استماع سابقة، عن سؤال حول أسباب عدم توصل البنك المركزيّ إلى تفاهم مع شركة «بايبيال» الرائدة في مجال المعاملات الماليّة الإلكترونيّة، بأنّه «إنسان محافظ في ما يتعلق بالتشريعات الماليّة»، وهو توجّه عبّر عنه أيضاً في مداخلته ضمن منتدى حول الجرائم الماليّة عقده «الاتحاد الدولي للمصرفيّين العرب» في تونس عام 2016، حين أبدى معارضة شديدة للسماح بتداول عملة «البيتكوين» الافتراضية.
وعلى عكس توجهات العيّاري المحافظة، يُنتظر من مروان العباسي، الذي منحه البرلمان أمس الثقة لترؤّس البنك المركزيّ، أن يتبنى توجهات أكثر ليبراليّة. ويبني المراقبون انتظاراتهم على خلفيّة العباسي المهنيّة، إذ عمل سابقاً مستشاراً لدى «المعهد العربيّ لرؤساء المؤسسات»، وتولى تنسيق مشاريع تنمية الصادرات التي يموّلها البنك الدولي ضمن فريق وزير التجارة. أما مسؤوليته الوظيفيّة الأخيرة فكانت تولّيه تمثيل البنك الدولي في ليبيا.

الأزمة أكبر

يُنتظر من مروان العباسي أن يتبنّى توجّهات أكثر ليبراليّة


خلال جلسة استماع ضمن «لجنة الماليّة» في البرلمان أول من أمس، تولى الشاذلي العيّاري الدفاع عن نفسه، معتبراً أنّه «كبش فداء» لفشل الحكومة في التعامل مع المؤسسات الدوليّة وتطوير التشريعات. هذا اللوم ليس بجديد، إذ سبق للعيّاري التصريح داخل البرلمان بأنّ البلاد «متأخرة بعشر سنوات في ما يتعلق بالإصلاحات الماليّة مقارنة بالدول التي شرعت في هذه الاصلاحات». وبعيداً عن التفاصيل، يُمكن اعتبار تطورات الأيام الماضية جزءاً من مأزق الحوكمة الذي يكبّل البلاد منذ سبع سنوات ويولّد أزمات جزئيّة بشكل دوريّ.
رغم عدم انتفاع تونس ببرامج دعم واسعة كانت قد وُعِدت بها (آخرها وعود الاستثمار في مؤتمر 2020 العام الماضي، التي بقي جزؤها الأكبر معلقاً)، فإنّها انتفعت بعدد مهم من القروض، وتخطط لتحصيل قروض أخرى هذا العام بغية «سد عجز الميزانيّة». لكنّ القروض التي تأتي في الأغلب محمّلة بالشروط وبنسب فائدة عالية، تتمثّل أولى مشاكلها في سُبل التصرف فيها. فعلى عكس النجاح الذي حققته تونس في التسعينيات بتسديد معظم قروضها، أخفقت الحكومات الهشّة لما بعد الثورة في إدماج الموارد الإضافيّة ضمن عقد اجتماعيّ جديد مبني على أهداف تنمويّة، ودمجتها بدل ذلك في مصاريفها.
وهكذا، ذهبت ــ بالمبدأ ــ أموال قروض السنوات الأخيرة في اتجاهين أساسيّين: زيادات في معاشات موظفي القطاع العام، وتطوير البنية التحتيّة، فيما بات واضحاً الآن أنّ تلك السياسة لم تنجح؛ فزيادات المعاشات التي يُصرّ عليها «اتحاد الشغل» لتعويض تدهور المقدرة الشرائيّة، فقدت مفعولها بارتفاع نسبة التضخّم التي تجاوزت 6 في المئة نهاية العام الماضي، وبتدهور قيمة العملة التي خسرت منذ 2013 حوالى نصف قيمتها مقارنة بالدولار. أما تطوير البنية التحتيّة، فقد اصطدم بانخفاض نسبة إنجاز المشاريع العامة التي لم تتجاوز في جملتها نسبة 50 في المئة على امتداد السنوات السبع الماضية.
اليوم، مع حلول آجال دفع معظم أصول وفوائض القروض، يتهدّد تونس شبح الدخول في حلقة مفرغة من استدانة مزيد من المال لدفع قروض سابقة. وفي حال استمرار الوضع على ما هو عليه، لن يكون هناك خيارات غير الاستجابة لتوصيات نيوليبراليّة أكثر حدة من قبل المؤسسات الماليّة العالميّة، تقضي على ما تبقّى من مكاسب دولة الرعاية الاجتماعيّة.




«صندوق باندورا»: تقشف وجشع!

في 2011، حين «عرَضَ» صندوق النقد الدولي قروضاً على تونس، «لم يكن أمامها أيّ مساحة للتفاوض»، وفق جهان شندول، إحدى مؤسّسي «المرصد التونسي للاقتصاد». تشير شندول، في مقالة أخيرة، إلى أنّ سياسات الصندوق في تونس تشرح إلى حدّ بعيد ما يحدث من احتجاجات، إذ تلعب القروض التي منحها للحكومة منذ الثورة دوراً كبيراً في تفاقم الدين العام من حوالى 30 في المئة من الناتج الإجمالي المحلي عام 2010 إلى 71 في المئة عام 2018. ومع اقتراب نهاية فترة الإمهال، باتت الحكومة الآن مطالبة بالتسديد، فيما من المتوقع أن تصل دفعات خدمات الدين إلى 22% من الموازنة عام 2018. وفي ما يخصّ القرضين الأخيرين اللذين تلقّتهما تونس من صندوق النقد، بين عامي 2012 و2016، فقد ترافقا مع شروط إضافية لخفض العجز عبر فرض سياسات تقشفية، والضغط على البنك المركزيّ للتوقف عن التدخل في سوق العملات. تماشياً مع ذلك، لجأت الحكومة إلى خفض النفقات عبر تجميد التوظيف، ورفع سنّ التقاعد، وزيادة الضرائب.
ماكس غاليين، وهو مختص في الاقتصاد السياسي لدول شمال أفريقيا والباحث في «معهد لندن للاقتصاد»، يرى أنّ المشكلة تتمثّل في «خليط» يشمل عوامل بنيوية على مستوى الاقتصاد الكليّ، لن تنحل في المستقبل القريب. ويذهب غاليين إلى أنّ الحكومة ليست في صدد معالجة الأمر، سواء كان ذلك بناءً على قرارها الذاتيّ أو بضغط من صندوق النقد، أو الاثنين معاً، مشيراً إلى الارتفاع الكبير في أسعار السلع مقابل الارتفاع الطفيف في الحد الأدنى للأجور.
لكن بطبيعة الحال، يرفض صندوق النقد اتهامه بالوقوف وراء التضخم وسياسات التقشف، إذ يقول المتحدث باسمه، جيري رايس، إنّ «الاصلاحات الاقتصاديّة التي تؤدي إلى تحجيم القطاع العام وإصلاح الضرائب، هي الطريق الأفضل لتحقيق النمو والعدالة»، مضيفاً أنّه «في النهاية، هذه سياساتهم الاقتصادية وليست مفروضة من قبل الصندوق».