الجزائر | في ضاحية الجزائر الجنوبية، تجمّع، أول من أمس، أساتذة مضربون أمام مدرستهم، رافعين لافتات كُتِبَ عليها: «كيف تحرمونني دخول بيتي؟»، في إشارة إلى أن المدرسة بيتهم والتلاميذ أبناؤهم، وذلك عقب اتخاذ وزارة التربية قراراً بطردهم نتيجة غيابهم عن قاعات الدروس لثلاثة أشهر في حركة إضراب مفتوح.
تتعلق مطالب هؤلاء، في الغالب، بالرفاه وتحسين الوضع الاجتماعي والمهني، كإعادة تنظيم مهنة الأستاذ بما يضمن ترقيات آلية وحرية في اختيار وقت التقاعد، وعادوا حتى إلى قرارات وقّعها الرئيس الراحل هواري بومدين عام 1972 بشأن امتيازات إضافية للأساتذة العاملين في مناطق الصحراء وطالبوا اليوم بإحيائها. وبينما تقول وزارة التربية التي تتولى شؤونها نورية بن غبريت، إنّ كل المطالب المتصلة بها مباشرة نُفِّذت، وإنّ تلك التي ظلت عالقة لها علاقة بقطاعات أخرى كالسكن والوظيفة العمومية، فإنّ الإضراب لا يزال، ولو جزئياً، على حاله منذ أسابيع.
أيضاً، يرفع الأطباء من جهتهم مطالب خلال إضراباتهم التي يتخللها تنظيم مسيرات ومظاهرات ووقوع ما يشبه «عنف الشوارع» في عدة مدن، ولا سيما الكبيرة كالعاصمة ووهران. ويجري ذلك في وقت أنّ عدداً من الأطباء الجدد، يسعون إلى إيجاد طريق تُمكّنهم من مغادرة البلاد للاستقرار في الخارج واللحاق بفرنسا على وجه الخصوص، حيث يعمل آلاف من الجزائريين في القطاعات الطبية.

تبدو الاحتجاجات نتيجة لتشوّه «خلقي» في شكل النظام العام

يُضرب الجميع ويطالبون بالحقوق دون تقييم الجهود. تُرفع الرواتب لأنّ العاملين قاموا بحركة احتجاج وليس لأنهم زادوا كميات الإنتاج أو حسّنوا الخدمات أو بذلوا مزيداً من الجهد. يبررون الاحتجاج عادة بكون الأسعار قد ارتفعت، وعليه «يجب على الدولة أن ترفع الأجور»، علماً أن الأسعار في الجزائر مفتوحة ويقررها السوق عموماً، فيما تضمن الدولة تغطية نسبة كبيرة من أسعار المواد ذات الاستهلاك الواسع بدعم من الخزينة العامة وبهدف الحفاظ على الحد الأدنى من العيش للجميع.
ثقافة الاحتجاجات هذه انتشرت في كل مكان، حيث تجد سكان بلدة أو قرية مثلاً يقطعون الطريق العام ويمنعون المارة ويعطّلون شغل غيرهم لمجرد أنهم يريدون إبلاغ رسالة احتجاج إلى السلطات بشأن وضع معيّن لا يروقهم أو لرفع مطلب معيّن أو لأنّ قوائم توزيع السكن التي نشرتها الهيئات المحلية لا تشمل أسماءهم.
المطالب التي ترفعها حركات الاحتجاج عموماً في الجزائر، أكانت في أوساط مهنية أم طلابية منظّمة، أم تلك العفوية التي تقوم بها مجموعات من السكان، تستدعي قراءة متأنية، إذ إنها قد تختلف عما يحدث في بلدان أخرى. فهذه المطالب يرفعها غاضبون في ظلّ نظام ونمط حياة قائمين، لتحقيق مبتغيات كان قد أسّس لها نظام آخر وفق نمط حياة آخر، وهي بالتالي غير قابلة للتحقيق إلا في ظلال ذلك النظام.
هذا الوضع خلق تشوّهاً في المسار العام لمنطق الأشياء. فالجزائر التي سنّت سياسة مجانية التعليم ومجانية العلاج وتدعيم المواد الواسعة الاستهلاك وما إليها من الجوانب الحياتية المعمول بها حتى الآن، ليست هي جزائر يومنا. لقد اتُّخِذَت تلك الإجراءات في سياق آخر مخالف تماماً لما هو قائم اليوم: كان النظام العام الذي اعتمد تلك السياسة، مبنياً على العمل والإنتاج وشقّ طرق الاكتفاء في كل الجوانب، ولكن خللاً وقع وكبُر مع الوقت، إذ ظلّت «السياسة الاجتماعية» قائمة في القطاعات التي تستوعب أكبر الميزانيات بغية تفادي الاضطراب المجتمعي.
يشتري الجزائري (كما يُقال شعبياً) الخبز بسعر قد يقلّ عشر مرات عن السعر الذي يشتري به الفرنسي، والوقود بسعر قد يقلّ سبع مرات عن السعر في فرنسا، ويدفع بدل الكهرباء والغاز لعامين مقابل ما يدفعه الفرنسي في شهر واحد. ويُجري عملية جراحية معقّدة بالمجان، ولو أجراها في بلد آخر لكلفته بيع كل ممتلكاته. ويدرس بالمجّان من الروضة إلى الدكتوراه، ولا يدفع بدل النقل ولا بدل الاشتراك في المكتبة والمطعم (1.20 دينار لم يتغيّر منذ الستينيات)، ويحصل أزيد من مليون ونصف مليون طالب جامعي على منح تشجيعية لقاء إقبالهم على قاعات الدرس. قد لا يوجد هذا في مكان آخر أو نادر وجوده، برغم «الترهّل» الواقع. وحتى المهاجرون حين يكمّلون عطلهم في الجزائر يعودون إلى بلدان الإقامة محمّلين بمقتنيات من السوق الجزائرية لأنها أقل سعراً. لكن في مقابل هذه السياسة الاجتماعية التي صمدت رغم صعوبات مرت فيها البلاد، فقد تراجع الإنتاج في كلّ القطاعات بشكل رهيب، وواكب ذلك زيادة كبيرة في عدد السكان: الجزائر التي يزيدُ عدد سكانها حالياً على 42 مليون نسمة، هي ثالث أكبر مستورد للقمح في العالم، مع أنّ المساحة من غير الصحراء (من الساحل إلى عمق 450 كلم جنوباً) تزيد على مساحة فرنسا. وأثبتت التجربة، أن الصحراء ذاتها تنتج قمحاً مميزاً، لكونها «تنام على بحار من المياه العذبة». وتستورد الجزائر أيضاً نسبة كبيرة من معظم المواد الغذائية الأخرى، وهي مواد كانت في العقود السابقة تُصدّرُها بكميات كبيرة.
العجز الغذائي يلتهم مليارات الدولارات عبر تخصيصها للاستيراد، فيما كان من شأن الاكتفاء الزراعي تخصيص تلك الميزانية لتطوير القطاعات المستفيدة من «السياسة الاجتماعية» المنتهجة منذ مطلع سبعينيات القرن الماضي، وفي مقدمتها مجانية وإلزامية التعليم للجميع ومجانية العلاج في المستشفيات والعيادات والمستوصفات الحكومية المنتشرة في كل مكان. ولكن منذ بداية الثمانينيات، انتهجت الجزائر طريقاً اقتصادياً مغايراً، فيما حافظت على النهج نفسه الذي سنّ «السياسة الاجتماعية»، وهو ما ولّد ما يمكن تسميته «انفصاماً في الشخصية الجمعية».
فُتح الباب على مصراعيه أمام القطاع الخاص، وهيمن الاستيراد بشكل أثّر بأي خطوة لتطوير قدرات الإنتاج الداخلي في كل المجالات. (مثلاً: تجربة الياس آدم زرهوني الذي أراد تحويل الجزائر إلى قطب عالمي في مجال صناعة الدواء، بما يجعلها تكتفي ذاتياً وتصدر كميات ضخمة، ولكن مشروعه لم يرَ النور بفعل تأثير لوبيات استيراد الدواء التي لا ترغب في إقامة صناعة محلية تمنع عنها الثراء من الاستيراد. وحدث هذا أيضاً في قطاعات أخرى، بما فيها الزراعة، حتى قيل إن كبار المستوردين هم من يتحكمون في سياسة الإنتاج).
ومن المفارقات أنّ الجزائر بلد نفطي وتستورد الوقود، علماً أنّ بناء منشآت تكرير كافية من شأنها أن تجعلها مصدراً للوقود الجاهز، لا للنفط الخام. وهي بلد بشريط بحري يزيد على 1500 كلم وتستورد مختلف أنواع السمك والفواكه البحرية المجمدة! وهي بلد مساحته خارج الصحراء تساوي مساحة فرنسا، لكنها تستورد مختلف المواد الزراعية. وصحراء الجزائر فوقها شمس أكثر من أي مكان آخر، ويُقال إنّ تحت صحرائها كميات كبيرة من الماء العذب، ولكن انقطاعات الكهرباء وشحّ المياه لا يزالان ينغصان على السكان.
هكذا، تبدو الاحتجاجات نتيجة لهذا التشوه «الخلقي» في شكل النظام العام الذي شهد تبدلات وتغيرات عدة، وانتهى به المطاف إلى منهج اقتصادي يجمع الفوضوية والجشع وسياسة اجتماعية مبنية على افتراض ازدهار قيم العمل والتخطيط وحسن التدبير... وعليه، إذا كان العالم قد سمّى الصين قبل نهضتها «العملاق النائم»، فهل يمكن تسمية الجزائر الآن «العملاق الهائم»؟