الخرطوم | في سابقة ضمن السياق التاريخي للعلاقات بين البلدين، استدعت الخرطوم قبل نحو شهرين سفيرها لدى القاهرة، في ظلّ توتر في العلاقات الثنائية كاد يصل إلى حدوده القصوى ويُنذِر بنشوب صراع لا تحمد عقباه بين بلدين جارين ومتداخلين، خاصة من منظور «أمن مياه النيل». الشرارة الأخيرة في سياق تدهور العلاقات اندلعت عقب الزيارة «التاريخية» للرئيس التركي رجب طيب أردوغان للخرطوم، في نهاية كانون الأول/ديسمبر الماضي، لكونها الأولى من نوعها منذ استقلال البلاد عام 1956.
وفي خلالها، منح البشير (إلى جانب توقيع عدد مهم من الاتفاقات) امتيازاً لأنقرة يسمح بتطوير جزيرة سواكن الواقعة على البحر الأحمر، شرقي البلاد، و«إعادة إعمار الآثار العثمانية الموجودة فيها»، ما أثار حفيظة الجانب المصري، ودفع نحو اتهام الخرطوم بتسليم الجزيرة لأردوغان الذي يُناصب القاهرة العداء، بغية بناء قاعدة عسكرية تركية في البحر الأحمر. وقد شنّ عدد من الإعلاميين المصريين هجوماً عنيفاً على سلطات السودان ورئيسها، معبّرين في ذلك عن رفض القاهرة للأمر، فضلاً عن اعتبار أمن البحر الأحمر «خطاً أحمر» بالنسبة إلى مصر. وعلى سبيل المثال، رأى رئيس تحرير «الشروق» المصرية عماد الدين حسين، في حينه، أنّ زيارة الرئيس التركي تندرج «في إطار مناكفة مصر ومعاندتها ومحاولة إزعاجها بكل الطرق»، مضيفاً أنّ «اللوم الحقيقي ينبغي أن يذهب لسياسة الرئيس السوداني الذي لم يفعل شيئاً خلال الشهور الماضية، إلا مناكفة مصر».
في خلفية المشهد، فقد سبق زيارة أردوغان حدث تجميد مفاوضات «سد النهضة» الإثيوبي بين كل من القاهرة والخرطوم وأديس أبابا، نظراً إلى اختلاف وجهات النظر بين مصر من جهة والسودان وإثيوبيا من جهة أخرى. (قامت القاهرة من جانبها بتعليق المفاوضات بشأن السد ورفعت مشاكلها الفنية إلى السلطات السياسية في تلك الدولتين، واقترحت بعد ذلك دخول البنك الدولي كطرف محايد في هذه المفاوضات، إلا أنّ العاصمة الإثيوبية رفضت. وبعد زيارة وزير الخارجية المصري سامح شكري لإثيوبيا، راجت أحاديث بأنّ الأخير طلب من أديس أبابا التفاوض المباشر معها وخروج السودان من هذا التفاوض. ورغم نفي القاهرة، فإنّ مصادر رسمية سودانية قالت إنّ الخرطوم وصلها فعلاً ما يفيد بأن شكري طلب ذلك من الإثيوبيين).
لم تنتهِ التوترات عند هذا الحد، إذ كان مسؤولون سودانيون يذهبون إلى حدّ الحديث «عن وجود حشود عسكرية مصرية في إريتريا، المتاخمة للحدود الشرقية للبلاد»، وقد قام الجانب السوداني بغلق هذه الحدود. ورغم نفي وزير الخارجية السوداني، إبراهيم غندور، اتهام بلاده لمصر بوقوفها خلف «هذه الحشود»، فإنّ الفكرة عُمِّمت في البلاد، حتى كادت تتحوّل إلى هاجس.

السفير لـ«الأخبار»: سأُركِّز على تنفيذ مخرجات اجتماع القاهرة

في غضون ذلك، يُجمِع عدد من متابعي ملف العلاقات بين البلدين على أنّ كل أزمة مصرية ــ سودانية لا بدّ أن تُمثِّل في أحد جوابها إفرازاً من إفرازات الأزمة الثنائية الأساسية، في إشارة إلى التنازع بينهما بشأن مثلث حلايب الحدودي، خاصةً أنّ الخرطوم تعتبره تابعاً لها وأنّ الجيش المصري فرض سيطرته عليه «فقط» بعد محاولة اغتيال الرئيس المصري الأسبق حسني مبارك، في أديس أبابا عام 1995، في عملية اتُّهِمت بها الخرطوم بشكل مباشر. ولا تتوانى الخرطوم عن المطالبة بالمثلث، وبتجديد شكاواها الرسمية أمام الأمم المتحدة، سنوياً. ويبقى هذا النزاع الحدودي جاهزاً للاستخدام عند كلّ مفترق في العلاقات بين البلدين: كلما ساءت، طفا إلى السطح من جديد.
القنابل الموقوتة الجاهزة لتفجير ملف العلاقات بين البلدين، استُخدِمت كلّها تقريباً، قبل سحب الخرطوم لسفيرها، في وقت تعاملت فيه القاهرة بـ«هدوء»، انعكس على لقاء الرئيس عبد الفتاح السيسي بنظيره السوداني على هامش القمة الأفريقية الأخيرة التي استضافتها أديس أبابا في نهاية الشهر الماضي. وفي ذلك اللقاء، «أكد الرئيسان على أهمية العلاقة بين بلديهما وضرورة المضيّ قدماً لإزالة كل العوائق... وقررا تشكيل لجنة رباعية من وزيري الخارجية ومديري أجهزة الأمن والمخابرات في البلدين لمناقشة القضايا العالقة، ورفع تقرير بها إلى الرئيسين في مدة لا تتجاوز الشهر من لقائهما»، الأمر الذي حصل فعلاً في الثامن من الشهر الجاري حين اجتمعت اللجنة الرباعية بين الجانبين في القاهرة، وخرجت بنتائج وُصِفت بالـ«إيجابية». ورغم أنّ مجمل التوقعات ذهبت في حينه إلى أنّ «الخرطوم سوف تُعيد سفيرها إلى القاهرة عقب هذا اللقاء مباشرة»، فإنّ الخرطوم أخذت بعض الوقت «لأنّها (كانت) تريد الاطمئنان إلى أنّ أسباب سحب السفير زالت، وأن هناك جدية من الطرف المصري في النظر لحلّ القضايا المصيرية بين البلدين»، وفق ما تشرح مصادر سودانية رفيعة لـ«الأخبار».
من جهة أخرى، بينما رجّح متابعون أنّ إعادة العلاقات بين القاهرة والخرطوم إلى طبيعتها تعود «بالأصل» إلى ضغوط خليجية، بالأخص سعودية ــ إماراتية، تهدف «إلى احتواء التوتر بين العاصميتن، كما تبعات الزيارة التركية (والقطرية) وارتفاع مستوى علاقات السودان مع أنقرة»، إلا أنّ ثمة تقديرات أخرى تضع المشهد الحالي في خانة «حتمية ضبط عقارب الساعة بين البلدين». «حتى لو كان النظامان يكره أحدهما الآخر» لأسباب قد تعود جذورها إلى حدّ خشية القاهرة من «الثقل الإسلامي» الذي تضمّه الخرطوم منذ عام ،1989 «إثر انقلاب البشير وحسن الترابي»، فإنّ «المشاكل الداخلية التي يواجهها كلّ من النظامين تمنعهما من الدخول في صدام خارجي».
في هذا الصدد، يرى وزير التجارة السوداني حاتم السر (وهو قيادي بارز في الحزب الاتحادي الديموقراطي/الأصل) أنّ لقاء أديس أبابا بين البشير والسيسي «طوى صفحة الخلافات ومهد الطريق... لمعالجة كافة الملفات ووضع خريطة طريق لمستقبل العلاقات»، ذاهباً في سياق حديث إلى «الأخبار» إلى التكلّم عن «صداقة وأخوة بين الرجلين، تتعمّق وتعود بالفائدة لمصلحة البلدين، وتفتح قنوات رئاسية للتواصل، تتجاوز العراقيل والمحطات المربكة». ويقول إنّه وحزبه «ينظران بسرور إلى التطورات الإيجابية التي تزيل التوترات، ويدعمان كل ما يعزز أمن وادي النيل ودوله».

«شخصية قديرة»

يرى رئيس التحرير التنفيذي لصحيفة «اليوم السابع» المصرية يوسف أيوب، في حديث إلى «الأخبار»، أنّ «وجود السفير عبد المحمود في القاهرة حالياً أمر مهم جداً... (إذ إنّه) الوحيد القادر على التواصل مع كل الأوساط المصرية، خصوصاً الإعلاميين المهتمين بالعلاقة». الأمر نفسه تقريباً يشير إليه الكاتب والمحلل السياسي المصري الخبير في الشأن السوداني خالد محمد علي، إذ إنّه يرى أنّ عبد المحمود «يتمتع بقدرات عالية وتاريخ دبلوماسي كبير»، ويضيف في حديث إلى «الأخبار» أنّه «سفير يمكن التعويل عليه في هذه المرحلة، إذ إنّه صاحب قرار، ويتمتع بعلاقات جيدة مع كل الأوساط المصرية، سواء أكانت رسمية أم حزبية أم إعلامية، وذلك باستثناء بعض الإعلاميين الذين لا يعلمون أهمية العلاقة ويغرّدون دوماً خارج السرب».
أما الكاتب والمحلل السياسي السوداني، الخبير في علاقات البلدين، جمال عنقرة، فإنّه يبدي اعتقاده بأن تشهد العلاقات «تطوراً أسرع»، خاصة على الصعيد الأمني، وذلك «نظراً إلى عودة الفريق صلاح قوش (إلى منصبه كمدير لجهاز الأمن والمخابرات، قبل نحو أسبوعين)، إذ تربطه علاقات قوية مع جهات وأشخاص عديدين في مصر»، علماً بأن سلف قوش، محمد عطا، هو من حضر في حينه اجتماع القاهرة. ويُذكّر عنقرة، في تصريح إلى «الأخبار»، بزيارة «الوفد الأمني المصري الرفيع إلى السودان عقب اجتماع القاهرة، والذي كان برئاسة وكيل المخابرات المصرية اللواء أيمن بديع، وهو قنصل مصر الأسبق في الخرطوم، وقد بدا الأخير متفائلاً في حينه».

«عودة إلى أيّ مستقبل»؟

في تقرير نشرته «مجموعة الأزمات الدولية» عن السودان، قبل أربعة أيام، يُذكّر معدّه ماغنوس تايلور بما كانت الخرطوم تتوقعه بفعل رفع عدد من العقوبات الأميركية عنها في تشرين الأول/اكتوبر الماضي، وهو ما لم يحصل، ما أسهم في تأزيم الوضع الاقتصادي. ويقول الكاتب إنّ «الأزمة الاقتصادية زادت الضغوط الداخلية على الرئيس البشير، في الوقت الذي تتعقّد فيه السياسات الإقليمية». وعلى هذا الأساس يأخذ التقرير عنوانه على شكل سؤال: «هل يمكن للسودان إدارة الأزمة الاقتصادية وسط تقلب الجغرافيا السياسية؟».
يستعيد تايلور «التغييرات الأخيرة للوجوه الرئيسة في النظام (الأخبار العدد ٣٤٠٣)، بمن فيها قيادة أجهزة الاستخبارات والأمن القوية، (إذ إنّها) تعكس رغبة الرئيس في تعزيز موقفه»، مضيفاً في سياق التقرير أنّه «في نفس الوقت، يحتاج النظام إلى أصدقاء بمقدورهم مساعدته على تخطّي التهديدات المباشرة، خاصة الاقتصادية منها. ووفق هذه الروحية، واظب البشير على التأقلم مع محيط جيو ــ سياسي يزداد تعقيداً في القرن الأفريقي وحوله، وذلك من خلال القفز من تحالف إلى آخر، لاعباً على وتر التنافس بين حلفائه المحتملين، وهذا ما منح حكومته بعض المكتسبات».
ربما لا تخرج العلاقة مع مصر عن الأطر التي يعتمدها البشير إقليمياً، تعزيزاً لمواقفه، وتحصيناً لوضعه الداخلي، كما يقول البعض. ولكن رغم كل ذلك، فقد باتت العلاقات بين القاهرة والخرطوم بحاجة إلى نديّة في التعامل، وإلى معالجة المشاكل بجدية أكبر، خاصة أنّ التجارب السابقة أثبتت أنّ «مساحيق التجميل» لم تعُد تُجدي نفعاً، لا سيما بعدما انعكست الخلافات شعبياً بصورة بدت غير مسبوقة. وبناءً على ذلك، يقول السفير السوداني «العائد»، في تصريح خصّ به «الأخبار»: «سوف أواصل قيادتي للبعثة الدبلوماسية في مصر، وسوف أُركِّز على تنفيذ مخرجات الاجتماع الرباعي الذي عقد في القاهرة في الثامن من الشهر الجاري»، مضيفاً: «بقيتُ ساعياً باستمرار لخلق علاقات مزدهرة بين شطري وادي النيل، تنأى عن العواطف وتخدم المصالح المشتركة، وسوف أواصل على هذا النهج».




أين تركيا؟

وسط تصاعد الأزمة التي أوجدتها زيارة أردوغان للخرطوم ضمن جولته الأفريقية، بدا في الأيام الأخيرة أنّ الموقف التركي عاد ليتماشى وما تتطلبه عودة الحياة إلى خطوط السودان ــ مصر. وفي هذا الصدد، بدا لافتاً قبل أسبوع نفي نائب رئيس الوزراء التركي، هاكان جاويش أوغلو، أن تكون اتفاقية إعمار شبه جزيرة سواكن في السودان بمثابة تعاون عسكري.
وكان وزير الخارجية السوداني إبراهيم الغندور قد نفى، عقب اجتماع القاهرة، أيّ تعاون عسكري بين بلاده وتركيا في جزيرة سواكن. وأوّل من أمس، أعلن مساعد الرئيس السوداني رئيس اللجنة التنفيذية للتعاون السوداني ــ التركي، عوض الجاز، أنّ عدداً من الاتفاقات التي وقّعها البشير وأردوغان آخر العام الماضي دخلت حيّز التنفيذ، مضيفاً «لا نلتفت للكلام الذي يُبنى عليه عمل غير مفيد... نحن نبحث عن مصالحنا، دون أن نضر بمصالح أحد».
رغم ذلك، يبقى أنّ تركيا حاضرة بقوة في شرق أفريقيا وفي صراعات القرن الأفريقي، ولها حساباتها الخاصة ضمن هذه المساحة المعقّدة بتوازناتها، ما يعني حتماً أنّ عودة الحياة إلى خطوط «الجارتين» لا تعنيها.
(الأخبار)