خلف الغيوم شيء ما يطبخ باسم «مشروع سلام جديد» تتبناه الإدارة الأميركية، من دون أن تُشير إلى أيّ مرجعيات دولية، أو أطر زمنية. كانت تلك إشارة أولى من واشنطن. وكانت الإشارة الثانية من بروكسل، حيث مقر الاتحاد الأوروبي.بحسب ما توصل إليه اجتماع مشترك لوزراء الخارجية العرب المكلفين بإدارة الملف المأزوم مع نظرائهم الأوروبيين، فإنّ «الولايات المتحدة شريك لا غنى عنه في استعادة مسيرة السلام، وفقاً لمرجعيات ومقررات الشرعية الدولية»، كما قال وزير الخارجية المصري سامح شكري.

الكلام الدبلوماسي المشترك يعني كل شيء، ولا يعني أي شيء بالوقت نفسه. الخيارات شبه مغلقة والأوضاع شبه معتمة والتساؤلات الجوهرية معلقة في الفضاء بلا إجابات عليها تُقنع بأن هناك ما يردع الإدارة الأميركية عن المضي قدماً في إنهاء القضية الفلسطينية باسم نوع من السلام يحصد فيه الإسرائيليون كل شيء ويخسر فيه الفلسطينيون كل شيء.
كان إعلان دونالد ترامب القدس عاصمة لإسرائيل والشروع في نقل السفارة الأميركية إليها من ضمن استراتيجية معلنه أطلق عليها «السلام بالقوة». بأيّ مراجعة لما جرى منذ ذلك الإعلان، فإننا بصدد تطوير له رغم كل الاحتجاجات والاعتراضات والقرارات العربية والإسلامية والدولية.
كانت قرارات الاجتماع الطارئ لوزراء الخارجية العرب بالقاهرة، كما قرارات القمة الإسلامية الطارئة أيضاً في إسطنبول، تحت الأسقف المنخفضة. سجّلت اعتراضاتها على قرار ترامب من دون اتخاذ أيّ إجراءات لها صفة الجدية مثل سحب السفراء من واشنطن، أو خفض مستوى التمثيل الدبلوماسي، أو التلويح بإعادة النظر في طبيعة العلاقات معها. كان ذلك داعياً إلى الاستهتار الأميركي بما صدر من قرارات.

قال بقدر كبير من الحرارة: لا تنتظروا أن يطلّ عليكم «غودو» من البيت الأبيض


أفضل ما جرى ــ تحت الشعور بالصدمة والخطر معاً ــ المدى الذي وصلت إليه تظاهرات الغضب داخل الأراضي الفلسطينية المحتلة، وخاصة القدس، وفي كثير من العواصم العربية والأوروبية وأمام البيت الأبيض نفسه. غير أنّ زخم الغضب جرى تطويقه، وأوقفت الانتفاضة داخل الأراضي المحتلة، وتعثرت المصالحة الفلسطينية بين حركتي «فتح» و«حماس». كان ذلك داعياً آخر إلى الإمعان في الاستهتار ومواصلة الضغوط لتليين أيّ ممانعة في نوع السلام الذي تطلبه واشنطن.
بأيّ مراجعة أخرى، فإنّ الضربة السياسية الحقيقية التي تلقتها إدارة ترامب جاءت من الجمعية العامة للأمم المتحدة بأغلبية ١٢٨ صوتاً ــ بعدما حالت بحق النقض دون صدور قرار مماثل من مجلس الأمن حصل على ١٤ صوتاً ــ يمنع المس بالوضع القانوني للمدينة المقدسة بالمخالفة للقوانين والقرارات الدولية.
كانت الهزيمة السياسية موجعة، لكنها لم تكسر نوع السلام الذي يطلبه ترامب بالقوة بسبب الشلل الرباعي، الذي أصاب العالم العربي في همته وحركته. لم يحدث أيّ استثمار سياسي للنصر الدبلوماسي في الأمم المتحدة، فيما كان الهجوم المضاد متواصلاً وشرساً. في أعقاب قرار ترامب، أصدر الكنيست قانوناً يؤكّد وحدة «القدس الإسرائيلية» الكاملة ويصادر أي مفاوضات بشأنها، أو أي انسحاب منها، ما لم يحظ بموافقة ثلثي نوابه ــ وهذا شرط مستحيل بالنظر إلى التوازنات الداخلية وطبيعة الدولة العبرية.
كان ذلك القانون ــ بنصّه ومغزاه ــ حالة حرب معلنة تطلب التسليم النهائي بكل ما يطلبه المشروع الصهيوني رهاناً على أوضاع الإقليم المنشغل باضطراباته ونيرانه واستعداد دول عربية عدة للمضي في التطبيع الاستخباراتي والعسكري والاقتصادي، من دون أن تأبه بما نصت عليه المبادرة العربية من مقايضة التطبيع الكامل بالانسحاب الشامل من الأراضي العربية المحتلة منذ عام ١٩٦٧. هكذا تمضي عملية تهويد المدينة المقدسة إلى آخر الشوط مهما كانت حجة القانون الدولي، أو بلاغة بيانات الإدانة.
من غير المستبعد في مدى قريب هدم المسجد الأقصى، والحفريات حوله وتحته لا تتوقف. وقد كان إغلاق كنيسة القيامة، التي يحجّ إليها المسيحيون في العالم، للمرة الأولى منذ مئات السنين على خلفية مضايقات إسرائيلية، حدثاً جللاً، لكنه لم يثر ردات الفعل التي يستحقها.
وهكذا وصل الاستخفاف إلى مداه بإعلان الإدارة الأميركية نقل سفارتها إلى القدس يوم ١٥ أيار /مايو المقبل في الذكرى السبعين لـ«تأسيس إسرائيل»، التي تعني ذكرى نكبة فلسطين ونكبتنا.
عندما تراجعت مستويات الغضب وهمة العمل الدبلوماسي، انفسح المجال واسعاً لمزيد من التنكيل بأي حق فلسطيني، كالسعي لضم الكتلة الاستيطانية في الضفة الغربية للدولة العبرية.
ومضت الضغوط إلى آخرها لتليين الموقف الفلسطيني، الذي أعلن أن الولايات المتحدة لم تعد صالحة لأن تكون راعية لعملية التسوية.
كان وقف تمويل الجانب الأكبر من موازنة «الأونروا» ــ منظمة الأمم المتحدة التي تُعنى بغوث اللاجئين ــ ضمن تلك الضغوط حتى يعود الفلسطينيون إلى مفاوضات بلا مرجعيات ولا إطار زمني تحت الرعاية الأميركية.
وكان من تلك الضغوط التضييقات الأميركية على مكاتب منظمة التحرير الفلسطينية باعتبارها «ضد السلام» و«إرهابية» في قلب للحقائق واستهتار جديد بالقانون الدولي.
كل ذلك كان محتملاً، لكنه أخذ مدى غير متوقع بمستوى أداء عربي، تطبيعه يكسر ممانعته، وتهافته يسبق تخاذله.
في نفس اليوم الذي دعا فيه الوزراء العرب من بروكسل إلى عودة الدور الأميركي في عملية التسوية، كأنّ طبخة ما قد استوت، حذّر اثنان من كبار الشخصيات المتداخلة في ملفات الصراع العربي الإسرائيلي هما ميخائيل بوغدانوف، ممثل الرئيس الروسي فلاديمير بوتين للشرق الأوسط، وميغيل أنخيل موراتينوس، وزير خارجية إسبانيا الأسبق وممثل الاتحاد الأوروبي في الشرق الأوسط لسنوات طويلة، من أي تسوية خارج المرجعيات الدولية.
كان ذلك أثناء ندوة في القاهرة نظمتها «مؤسسة ياسر عرفات»، التي يترأسها وزير الخارجية الفلسطيني السابق ناصر القدوة.
وفق بوغدانوف، فإنّه «لا يمكن تهميش أولوية القضية الفلسطينية، أو أن تتراجع أهميتها، حتى على خلفية النزاعات الحادة التي تجتاح الشرق الأوسط وشمال أفريقيا». ووفق موراتينوس، فإنّه «لا خرائط جديدة ولا استقرار في الشرق الأوسط إذا لم تحل القضية الفلسطينية».
رغم اختلاف زوايا النظر بين الرجلين، فالأول مسؤول أمام قيادته عن كل حرف يقوله... والثاني لا تحكمه سوى رؤيته السياسية والأخلاقية دون أيّ التزامات يفرضها منصب، إلا أنهما اتفقا على أن إنهاء الانقسام الفلسطيني مسألة مصير للقضية كلها.
قبل أن تبدأ الندوة التي أدارها الأمين العام للجامعة العربية الأسبق عمرو موسى، وحضرها خلفه في نفس المنصب الدكتور نبيل العربي، مال نحوي موراتينوس متسائلاً عما سوف أقوله في وضع حرج وصعب ومن أسوأ ما رأى في حياته الدبلوماسية الطويلة. أجبته: «سوف أقول، ويقول غيري، لكن المشكلة في العالم العربي من يقرر وينفذ».
عندما استشعر موراتينوس من المداخلات الرئيسة والحوارات التي جرت بعدها، نفس ما كان يراه هو نفسه، خشي أن تفضي تلك الأجواء بين النخبة الفلسطينية التي حضرت الندوة ــ من بينهم عزام الأحمد والدكتور نبيل شعث ــ إلى شبه يأس من أي أمل. قال بقدر كبير من الحرارة: «ثقوا في أنفسكم، لا شيء سوف يحدث من دون موافقتكم، ولا تنتظروا أن يطلّ عليكم غودو من البيت الأبيض» ــ مُستلهماً مسرحية صمويل بيكيت الشهيرة «في انتظار غودو»، الذي لم يأتِ أبداً. كانت تلك رسالة ثقة ــ من موقع خبرة دبلوماسية دولية ــ تحتاج إليها القضية الفلسطينية.
* كاتب وصحافي فلسطيني