قبل أيّام شهدت مدينة اللاذقيّة حادثةً مُفجعة، كانت نتيجتُها تحوّل ثلاثة أطفال إلى أيتام الوالدَين خلال دقائق. خلافٌ بين رجل وزوجته توّجه الرّجل الأربعيني بإطلاق النار على الزوجة، قبل أن يغادر المنزل نحو سطح المبنى الذي يسكنُه وينتحر عبر تفجير نفسه بواسطة قنبلةٍ يدويّة! بعد شيوع نبأ الحادثة، انشغل كثير من أبناء المدينة بالتساؤل عن أسباب الشّجار العائلي الدموي، وسرت روايات كثيرة، غير أنّ أحداً لم يطرح السؤال الأهم: ما سبب وجود مسدّس وقنبلة يدويّة في حوزة موظّف مدني اتّفق كل معارفه على أنّه طيب وبسيط ويحظى بسمعة حسنة، شأنه شأن زوجته؟
وربّما كان السبب في عدم طرح هذا السؤال، أنّ المتوفّى لم يكن يشكّل حالة شاذّة، إذ بات انتشار السلاح بين المدنيين، أو في حوزتهم أشبه بـ«نمط حياة». وعلاوةً على كل الويلات التي أذاقتها الحرب للمدنيين السوريين، وكل مسبّبات سقوط ضحايا من القصف إلى التفجيرات إلى القذائف وسواها، تفرض ظاهرة انتشار السلاح العشوائي نفسها «منافساً» شرساً على يوميّات معظم المدن السوريّة إلى درجة لا يكاد يمرّ معها يوم من دون السماع عن ضحيّة جديدة من ضحايا هذه الفوضى. بعد يومين من فاجعة العائلة المذكورة، أدى شجارٌ بين شابّين في حيّ الرّمل الشمالي (اللاذقيّة) إلى مقتل أحدِهما بطلق ناري من سلاح حربيّ، ومرّة أخرى تضاربت الروايات بين قائل إن الشّاب الآخر هو من أطلق النار، ومؤكّد أنّ والد الشاب (الخصم) قد تدخّل في الشجار وأردى غريم ابنه برصاصة حاسمة.


حلب معكم على الخط

شهور قليلة فقط هي الفترة التي عاشت فيها حلب انحساراً لظواهر الفوضى الأمنيّة، قبل أن تعود المدينة إلى إحصاء حالات القتل (عشوائيّاً كان أو مقصوداً) بفضل انتشار السلاح في قلب المدينة، مصحوباً بمختلف ظواهر «التشبيح» المتعارف عليها من إطلاق نار عشوائي إلى انتشار اللباس العسكري في معظم الأماكن: شوارع، مطاعم، حدائق، أسواق. «وين ما التفتت بتلاقي حدا لابس عسكري، مراهقين، شباب، رجال، واحد عم يشفّط بالسيارة، واحد عم يبيع ع البسطة»، يقول أبو أيهم لـ«الأخبار»، وتؤيّد كلامه مصادر أخرى من أبناء المدينة. الظواهر لم تبقَ شكليّة، بل قدّمت سريعاً أدلّة ملموسة، هي عبارة عن جثث ضحايا، أو مصابين.

شهور قليلة هي الفترة التي عاشت فيها حلب انحساراً لظواهر الفوضى الأمنيّة
يوم السبت الماضي شهد حيّ «الكرة الأرضيّة» أحدث القصص المفجعة التي تبدو مرشّحة للتحول إلى «روتين» يومي. ملخّص القصّة أنّ شابّاً أوقف سيارته التزاماً بإشارة المرور، الأمر الذي لم يرُق سائقَ سيارةٍ خلفه، فبادره بالسّباب والوعيد لأنّه «أغلق عليه الطريق»، لم يجد السّائق الغاضب في ضوء إشارة المرور الأحمر سبباً مقنعاً، ويبدو أنّ «كرامته» أهينت حين هدّده الشاب بتقديم شكوى بحقّه لأنه صدم سيارته قصداً، فعاجلَه بطلقتَين في صدره، ولاذ بالفرار. قبلها بعشرة أيّام كان شاب عشريني يلهو ببندقيّته الحربيّة في حيّ صلاح الدين، فخرجت منها طلقات عدّة، أصابت إحداها طفلاً عمره ثلاثة عشر عاماً وأردته على الفور، وأصابت طلقة ثانية طفلاً آخر عمره خمسة عشر عاماً (ابن خالة الطفل الأول) أُسعف على إثرها إلى العناية المشدّدة.


«حفلات إطلاق» يوميّة

في حلب واللاذقية وسواهما من المدن الخاضعة لسيطرة الدولة السوريّة اعتاد السكان ظاهرة إطلاق الرصاص العشوائي في «المناسبات». وسواء أكانت تلك المناسبات سعيدة أم حزينة، فالتعبير بلغة السلاح يبدو «الأفصح». أخيراً، لم يعد الأمر بحاجة إلى مناسبة، وصار سماع إطلاق الرصاص مسألة مألوفة. يقول عزيز أحد سكان حيّ بستان الريحان (اللاذقيّة) لـ«الأخبار» إنّه اعتاد إغلاق محلّه يوميّاً من دون أن يحتاج إلى النظر إلى الساعة «الله وكيلك يا أستاذ، كل يوم الساعة تسعة المسا بيطلع صوت رصاص وبيبقى كذا دقيقة، متل فرض الصلاة». وعلى نحو مماثل يؤكد أحد سكّان حيّ الأربعين في مدينة حماه وجود حالة مماثلة، لكن في موعد أبكر بساعة (في الثامنة مساءً). بينما يؤكد مصدر حموي آخر أنّ «سكان حيّ طريق حلب قد اعتادوا يوميّاً مشاهدة شاب يركب دراجة ناريّة ويُطلق النار في الهواء».

«هيبة الدولة» بخير؟

لا يبدو أنّ الجهات الحكوميّة ترى في هذه المظاهر ما يمسّ «هيبة الدولة». وبدلاً من العمل على تطبيق القوانين الموجودة على الورق لضبط مظاهر الفلتان الأمني، ولتنظيم حيازة الأسلحة وترخيصها، تبدي الحكومة السوريّة اهتماماً خاصّاً بـ«الجرائم الإلكترونيّة». وبعد أن شغل هذا الملف ذهن الفريق الحكومي منذ مطلع العام القادم، قال عضو مجلس الشعب نبيل صالح، عبر صفحته على موقع «فيسبوك»، إنّ المجلس سيوافق قريباً على طلب وزارة العدل افتتاح محاكم مختصّة بالجريمة الإلكترونيّة في سائر المحافظات. وكتب صالح «تنويه: يُمنع شتم المؤسستين التشريعية والتنفيذية حتى لا ياخدوكم جماعة الجرائم الإلكترونية التي سيوافق مجلس الشعب قريباً على طلب العدل افتتاح محاكم لها في سائر محافظات القطر. يمكنكم أن تشتموني فقط». حسناً، يمكن المواطن أن ينام قرير العين على وقع طلقات الرّصاص، مطمئنّاً إلى أنّ «هيبة الدولة» بخير.