رام الله | تُصعّد البنوك الوافدة في فلسطين، أي التي أساسها في الخارج ولها فروع في الضفة أو غزة، إجراءاتها بحق الأسرى المحررين وبعض المؤسسات الحقوقية والجمعيات المجتمعية، وكان آخرها إجبار أسير محرر على إغلاق حسابه قبل أيام. محمد أديب القيق (35 عاماً)، الذي يعمل مراسلاً لقناة «المجد» الفضائية، فوجئ عند تسلُّم راتبه الشهري برفض إدارة البنك في فلسطين تسلُّم حوالة القناة المرسلة إليه من مصر، مؤكداً أنه يتعامل مع البنك منذ ما يزيد على 15 عاماً.
ويشرح القيق، في حديث إلى «الأخبار»، أن إدارة البنك رفضت الكشف له عن الأسباب الحقيقية لرفض تسلُّم حوالته، كما يوضح الأسير المحرر، الذي خاض إضراباً عن الطعام في سجون الاحتلال مرتين خلال العاميْن الماضييْن، وأنه لا يصله أي حوالات مالية خارجية إلا من عمله مع «المجد»، إلى أن علم بعد متابعة حثيثة أن البنك أجبره على إغلاق حسابه بتهمة علاقته بـ«الإرهاب».
وعلمت «الأخبار» من مصادر محلية وأخرى فصائلية أنه رُصدَت سلسلة من إغلاق الحسابات البنكية أو المضايقات، وقد استهدفت بصورة أساسية أسرى محررين، ونواباً في المجلس التشريعي، إضافة إلى قياداتٍ نسوية وعائلات شهداء، أو أسرى في سجون العدو الإسرائيلي، وذلك في ما يشبه بداية الحملة التي يهدد بها الإسرائيليون منذ شهور. الأكثر «استفزازاً» للمتضررين أن إدارة البنك لا تُكلف نفسها إرسال بلاغٍ مكتوب إليهم، بل تستعمل الاتصالات الهاتفية لتبلغهم بقرارٍ مباشر إغلاق حساباتهم، أو تلمِّح إلى ذلك على شكل «نصيحة». وتستند البنوك في خطواتها إلى العقد القانوني بين العميل والبنك عند فتح الأول حسابه وبداية تعاملاته، إذ يمنح العقد يمنح البنك حق إغلاق الحساب المالي ضمن المعايير الداخلية للبنك التي يرى فيها الأخير مخالفاتٍ تضر به.
في هذا السياق، يؤكد مصدر مطّلع أن «مؤسسة الضمير لحقوق الإنسان»، و«جمعية الأمل لإسكان الأسير»، كانت من أبرز المؤسسات التي تعرضت حساباتها البنكية للإغلاق. وبينما تُحكم بعض البنوك الخناق على الأسرى المحررين، فإنها لا تستثني من إجراءاتها عائلات الأسرى، ومن أمثلة ذلك رفض أحد البنوك إصدار بطاقة «فيزا» لزوجة الأسير عاهد أبو غلمة، وهو أحد أعضاء الخلية التي نفذت عملية اغتيال الوزير الإسرائيلي رحبعام زئيفي عام 2002. وكانت أبو غلمة قد ذكرت أيضاً أن «البنوك تضغط على أهالي الأسرى لسحب حساباتهم البنكية منها».

إدارة البنك تستعمل الاتصالات الهاتفية لتبليغ عملائها قرار إغلاق حساباتهم


أيضاً، علمت «الأخبار» أن نجل النائب في المجلس التشريعي عن حركة «حماس» فتحي القرعاوي، أُغلق حسابه أخيراً، وأُبلغ بضرورة سحب الرصيد الباقي منه (200 شيقل: نحو 58 دولاراً)، بذريعة «وضع الاتحاد الأوروبي نواب كتلة حماس البرلمانية على لائحة الإرهاب».

إجراء احترازي!

ليست عمليات إغلاق الحسابات البنكية أو رفض طلبات الخدمات هي حصراً ما تنفذه بعض البنوك بحق المقاومين وعائلاتهم، بل يصل الأمر إلى حد المضايقات والتشديد الاحترازي، إذ رفض أحد البنوك فتح حسابٍ لـ«طاقم شؤون المرأة»، لأن قانون الجمعيات ينص على توقيع نائب رئيس مجلس إدارة المركز على المعاملات البنكية لفتح الحساب، وآنذاك كانت عبلة سعدات، وهي زوجة الأمين العام لـ«الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين»، أحمد سعدات، تشغل هذا المنصب، الأمر الذي جعل الطاقم ينقل حسابه المالي إلى بنكٍ آخر.
ويكشف مصدر يعمل في أحد البنوك الوافدة، لـ«الأخبار»، أن بعض البنوك تبنت في السنوات القليلة الأخيرة سياسة جديدة أكثر تشدداً بخصوص حسابات من لهم علاقة بالكفاح وتعاملاتهم البنكية، وهذا ينسحب على المؤسسات التي قد ترى البنوك أن لها «علاقة بالإرهاب، أو يمكن أن يشوش على عمل البنك». وشملت التضييقات في كثيرٍ من الأحيان موظفي هذه المؤسسات، مثل حرمانهم أخذ القروض، وحتى رفض كفالتهم لأي شخص آخر ينوي أخذ قرض. ورغم أن هذه الإجراءات لا تزال حالياً تنفذها البنوك الوافدة، لكن التخوف هو أن تصل حتى البنوك المحلية، كما أن الأولى (الوافدة) باتت «تتمادى في الرقابة الذاتية، وأصبحت كأنها دولة داخل الضفة، تُغلق حساب من تشاء بحجة الإرهاب»، يقول المصدر نفسه، مشيراً إلى أن هذه البنوك «تضع في واجهة أفرعها الرئيسية ومواقعها الإلكترونية بنوداً تُشيد بالحريات والتزامها مع حقوق المتعاملين معها».

«جريمة وفق القانون»

يقول المستشار القانوني لـ«مؤسسة الحق» الحقوقية عصام عابدين، إن «إغلاق الحسابات البنكية (بهذه الطريقة) تجاوز للقانون الفلسطيني وجريمة لا أساس لها في المعايير أو الاتفاقات الدولية، بل تشكل تمييزاً يحظره القانون الأساسي الفلسطيني رقم 9، والمادة رقم 32 من ذات القانون». ويوضح عابدين أن «أسماء الأسرى والمؤسسات الحقوقية المعنية بشؤون الأسرى غير مدرجة على قوائم الإرهاب الدولية... إغلاق الحسابات البنكية اجتهاد من بعض البنوك ولا أساس قانونياً له».
وما يضيف تأكيداً لذلك، أن القوات الإسرائيلية دهمت عدداً من المؤسسات التي أُغلقت حساباتها ولم تحصّل دليلاً واحداً يدينها، فيما سعت تلك البنوك إلى إغلاق حسابات هذه المؤسسات وضيّقت على موظفيها، وهنا يظهر السؤال عن دور «سلطة النقد الفلسطينية»، خاصة في ظل حديث السلطة عن رفضها الضغوط الأميركية والإسرائيلية في هذا الشأن. وتقول مصادر رسمية إن «سلطة النقد»، وإن كانت غير راضية عن إغلاق بعض البنوك مجموعة من الحسابات، لكنها لا تستطيع تشديد الرقابة على البنوك المتجاوزة وفرض إجراءات عليها، لأن ذلك قد يهدم جزءاً مهماً من أعمدة القطاع المصرفي الفلسطيني، على حد تعبير تلك المصادر.
تجدر الإشارة إلى أن أصحاب الحسابات التي أغلقت، أكانوا أفراداً أم مؤسسات، نقلوا حساباتهم إلى مصارف أخرى محلية، علماً أن مجمل البنوك في فلسطين هي 15، سبعة منها محلية، وثمانية وافدة، والأخيرة منها: سبعة أردنية، وبنك مصري واحد.