كُنّا في حالة يُرثى لها وسط ازدحام المترو في العاصمة، وننتظر بفارغ الصبر الوصول إلى المحطة لنتخلّص من الاكتظاظ وضيق التنفس والروائح المزعجة، إلى أن صرخ أحد الركاب: «كل هذه الفوضى بسبب الثورة، يا حسرة على أيام نظام بن علي حين كان الانضباط، والأمور منظمة». كلماته تلك كانت بسبب سائق «متخلّف» ركن سيارته فوق السكة الحديد، ما تسبّب في تعطيل سير المترو، الذي بدوره عطّل المترو الذي يليه، فتعرقلت الحركة المرورية في أحد الطرق الفرعية للعاصمة.رغم أنّ صديقي كثير الانزعاج من أيّ تحامل على الثورة، وأيّ إساءة لهذا الحدث الذي أطاح حكم زين العابدين بن علي، فإنّ كلام ذلك الكهل لم يُجانب الصواب: الفوضى من أبرز سمات الشارع التونسي منذ سنوات عدة، منذ تجاوز عدد سكان العاصمة وضواحيها مليوني نسمة، في حين أنّها بُنِيت لتتسع لأقل من نصف مليون مواطن، ومنذ انطلقت مرحلة «الانفتاح الاقتصادي» التي غيّرت ملامح الشارع التونسي ودشنّت مرحلة جديدة من البناء الفوضوي غير المنظم... فتغيّرت ملامح المدينة من دون الحفاظ على معمارها وحضارتها.
كلامُ ذلك الكهل أثار جدالاً فوضوياً داخل عربة المترو المكتظة بالركاب، بين رافض لتحميل الثورة مسؤولية الفوضى، ومساند له... ومتكلّم للاشيء (عن سمات التونسي وطبيعته وأسباب انتشار القمامة وفوضى وقوف السيارات وتكاسل عمال القطاع العام والبلديات والمنشآت العمومية، إلخ). أما صديقي، فقال: «شوف... كلامه يذكرني بأيّام الجامعة»، في إشارة إلى حلقات نقاش حول طبيعة المجتمع، مثلاً: هل هو إقطاعي أو رأسمالي تابع؟
«لماذا تريد إقناع الناس بأنّ العاصمة تونس كانت تشبه فيينا أو جنيف أو أمستردام، وبسبب الثورة تحوّلت إلى إحدى عشوائيات هذا العالم؟»، تدخّل الصديق في الفوضى الدائرة. تابع كأنّه يهذي وحيداً: حاول أن تكون منصفاً قليلاً... أؤكد لك أن ذلك السائق الأحمق لا يتحمّل وحده مسؤولية تعطّل سير هذا المترو الذي نركبه الآن، بل «الدولة الحديثة» هي المسؤول الرئيسي، الدولة التي تخلت عن الترامواي واستبدلته بهذا «الميترو الخفيف» الذي مزقت سكته الحديدية أوصال العاصمة وفرّقت بين شوارعها وقسمتها إلى كانتونات منفصلة، وبسببه أصبحت الطرق ضيقة وأُعدِمت طرق أخرى، فبات الازدحام صورةً مقرفة من يومياتنا، وإذا ما أضفنا إلى ذلك كثرة عدد السكان مقارنة بحجم المدينة، فهل تتخيّل النتيجة؟ المسؤول أيضاً هو الدولة التي سمحت بانتصاب الأسواق الفوضوية في قلب العاصمة فزادت من اختناقها، الدولة التي أسّست مركزية «سكانية وإدارية» في مساحة صغيرة رغم إمكانية بناء مدينة أخرى في المساحات الشاسعة والخالية المقفرة التي تحيط بالعاصمة.
كانت «الباساج» متنفّساً للعائلات والعملة والعشاق، قبل إغلاق أبوابها


تابع، وحده أيضاً... هل تعلم أن حديقة «الباساج» كانت متنفساً للعائلات والعملة والعشاق، لكن النظام السابق أغلق أبوابها؟ هل تعلم أن المسبح البلدي في «البلفيدير» قد أصبح مكاناً للأشباح بعدما أقفلته الدولة؟ هل تعلم أن كل الطرقات المخرّبة سببها صفقات الفساد التي كان يمنحها النظام السابق لمقرّبين منه، من المقاولين الفاسدين، من دون رقيب أو حسيب؟ ألا ترى معي كيف تم تشويه العاصمة ببنايات السيراميك والبلور والبنايات البشعة مقابل القضاء على معمارها الأصلي؟
كان يتحدّث بحماسة شديدة، فيما أراقب تفاعلات الركاب القريبين منا. بينهم من أومأ برأسه موافقاً، وبينهم من كان يُصدِرُ نفساً عميقاً معبِّراً عن حسرة كبيرة، بينما كان آخرون يتذمرون... ففي «الميترو» ثمة من يحصر اهتمامه بجسد فتاة جميلة مفكراً في طريقة للإيقاع بها، وثمة من هو «تائه في ملكوت الله»، وثمة وثمة...
وحده صديقي كان يسترسل: وأنت أيّها المنزعج. لنفرض جدلاً أنّ الثورة تسبّبت في كل هذا، فهل كنت تملك حق التذمر والشكوى؟ ألا تذكر أنك كنت لزمن ليس بالبعيد لا تفتح فمك إلا للأكل والشرب؟ ألم تكن ترى السرقة والفساد والرشوة وبطش البوليس والبنية التحتية المهترئة والطرقات الملأى بالحفر والأخاديد ولا تستطيع حتى انتقاد المجلس البلدي أو لجنة الحي؟ فما بالك بانتقاد الحكومة أو أحد وزرائها؟ قد نكون في مرحلة التخلّف والفوضى وعلينا قضاء سنوات أخرى لمعالجة ذلك، لكننا اليوم نستطيع التظاهر والاحتجاج، ولدينا حق النقد والانتقاد والرفض والضغط على السلطات قبل فوات الأوان... لكن «هذه البرهة من زمن تونس» انقطعت تفاصيلها، حين جاء السائق الأحمق تحت وابل من الغضب والصراخ والشتم من قبل المارة والركّاب، وأبعد سيارته من سبيلنا وتحرك «الميترو».
ليلاً، وفي إحدى الحانات المحيطة بـ«بورقيبة» (شارع العاصمة الكبير)، استعاد صديقي ما حدث، وكان فرحاً، «ليس لأنني مقتنع تماماً بما قلته باعتبار أنني أؤمن أيضاً بأنّ الثورة عمّقت ظواهر موجودة سلفاً، منها الفوضى وانتهاك القانون وعدم احترام مبادئ العيش المشترك، بل لأنني وجدت نفسي بعد ست سنوات من هرب بن علي وعائلته محافظاً على نفس حماستي وإيماني بثورة الحرية وبما يمكن أن تُقدِّمه لتونس».
تذكرتُ ما حدثني به صديق آخر في محل تجاري كبير في العاصمة، حيث كان أحدهم يتذمر من الاكتظاظ، وبطبيعة الحال اعتبر أيضاً أنّ الثورة متسبّبة في ذلك، وحين وقف في الطابور ينتظر دوره ليدفع حساب ما اشتراه، طلب من ذلك الصديق أن يتجاوزه في الطابور لأنه مستعجل، فما كان من الأخير إلا أن رفض طلبه، وأجابه ببساطة: «علمتني الثورة أن احترم غيري وانتظر دوري في الطابور كبقية الناس». هكذا أجابه، ببساطة تحمِلُ قدراً كافياً من السخرية التي تُعينُ على متابعة الحياة في ظلّ مجمل «النقمات المزمنة».