بحجم شراسة الحرب التي دارت يوماً على أوتوستراد حرستا وشراهة قناصيها للموت، كانت شراسة الناس في الفرح. الفرح الجائع القادم من الشرق، أعلام، أغانٍ، عناق، قُبل وتهاني وتبريكات. المشهد بدا المشهد الأخير في نهاية فيلم رعب طويل عاشه سكان العاصمة طوال سبع سنوات من الحرب، لكنّ مشهداً آخر غيّر السيناريو وأظهر أن هناك من يعمل على إطالة الفيلم بجزء ثانٍ يحمل عنوان «التغريبة السورية الجديدة».كمن يأمرهم بالتعرّي، أمسك عضو مجلس الشعب محمد قبنض قارورة الماء بيد وأفرد سوط لسانه بيده الأخرى وبدأ عملية الجلد، طالباً من البطون الخاوية أن تردد الشعار، وكلما استجابوا له وخلعوا قطعة من ملابس روحهم، زاد من لسعة سياطه، وأصرّ عليهم أن يخلعوا المزيد مما بقي من كرامة، وكمن يعترف تحت التعذيب حيث لا حول ولا قوة، ولا قدرة له على التحمل. خضعوا جميعاً وتعرّوا، هم عراة الآن يقفون أمامه، هو ينظر إليهم، وهم تارةً ينظرون إلى الأرض وإلى الماء تارة أخرى، تقدم أخيراً ورمى عليهم قارورة الماء كمن يرمي يمين الطلاق. هذه هي الترجمة الحرفية لعبارة: «راحت السكرة وإجت الفكرة». قيّدت «السكرة» السوريين لسبع سنوات، فكانت الحرب مبرراً للمسؤولين يعلّقون عليها أخطاءهم بحق الناس، أما «الفكرة»، فقد أطلق سراحها عضو مجلس الشعب في مشهدٍ أُصيب فيه القرف بالقرف.
مشهد قبنض أنذر ببدء تغريبة ثانية للسوريين الخارجين من الغوطة كما تغريبة كل السوريين الذين عانوا قبل الأزمة وخلالها من طبول الأزمات وتجارها. هي تغريبة الداخل، التغريبة الأصعب والأقسى، رجال ونساء أطلق سراحهم للتو وخرجوا من عتمة الأطراف تجذبهم أضواء المدينة، وفي الطريق إليها، دخلوا سجناً آخر «الماء فيه مقابل كل ما بقي من كرامة». لو أن أحداً يخبر هذا الطبل ما معنى السجن والحصار، ما معنى أن تتخيل وجه رغيف الخبز القاسي العفن كوجه من تحب لأنك جائع، أن تتخيل البطانية الوحيدة المتوافرة في حضن أمك الدافئ، ما معنى أن تنام طوال أشهر على جنب واحد ووجهك يستدير مع استدارة شمس كل صباح صوب ذاك المنزل المرمي على الأرض بين الركام وحبات الخرز التي تحيط بصورة جمعت شمل العائلة قبل أن تعيد المقبرة جمع شملها لاحقاً، قد لا يستوعب عقله هذا الكلام، فذاكرته محشوّة بالنبيذ، وذاكرتنا محشوّة بالأموات، لصوته كل الصدى ولا صدىً لصوتنا.
هي سياط «قبنض» المحمية بكرسي مجلس الشعب ومطرقته التي لا تستيقظ إلا لتعلن وقت القيلولة، هي نفسها سياط رجال السلطة المحمية بقوة المال التي حبست أنفاس الناس وأوصلتهم إلى لحظة انفجار الماء. وبعد، أين يكمن الخطأ؟ هل الخطأ في قبنض نفسه، أم في الدولة التي تغامر بحياة جنودها، لكنها لا تغامر برفع الدعم أو الحصانة عن رجال كثر أمثال قبنض امتهنوا إهانة الناس وسرقتها وإذلالها خلال سنوات الأزمة وما سبقها، أم أن الدولة تحولت إلى شركة وتحول أصحاب المال فيها إلى مساهمين يسوّقون لثقافتهم الضحلة ومنتَجهم الرخيص؟
وبعد كل التطرف الذي يحتويه مشهد قبنض، هل سيكون لنا من حجة على دوماني أو حرستاني أو عربيني إذا ما استبدل بحبة المشمش قنبلةً ورمى بها من سبّب له اليأس والإهانة وفقدان الأمل. هؤلاء التائهون الخارجون من الغوطة هم سوريون، سواءٌ أأخطأوا أم أصابوا، الأرض أرضهم وبردى امتلأ بعرق تعبهم قبل أن يمتلأ بدموعهم، بردى نفسه الذي سقى دمشق قبل أن تأتي الشركة وتجفف المنبع وتعيد بيع الماء في قارورة.
هي كلمة قالها صاحب استقلال سوريا سلطان باشا الأطرش: «نيّال اللي ما عندو شرف».