تونس | قبل ثلاثة أيام، اتّهم النائب عن «حركة مشروع تونس» حسونة الناصفي، رئيسة «هيئة الحقيقة والكرامة» سهام بن سدرين، بتوقيع عقد مع «شركة إعلانات» لها ارتباطات إسرائيلية. وفي سياق كلمة في البرلمان امتدت لعشرين دقيقة، حاول الناصفي إثبات ضرورة «حلّ الهيئة»، بحجج قانونيّة وسياسيّة بداية، ثمّ باتهام بن سدرين بالوقوف وراء عقد إعلانيّ وقعته مع شركة «بانوراما» المرتبطة بـ«شركة أم» يديرها دافيد سابل.أثناء البحث عن تفاصيل هذه الشركة، يتبيّن أنّها تأسست عام 2005، وصارت منذ عام 2009 مرتبطة بشركة «يونغ أند روبيكام» الأميركيّة (يو أند آر اختصاراً). تدير «يو أند آر» نشاطات في 93 بلداً (ولها مقرّ في المغرب)، وتعمل في الإعلانات والعلاقات العامّة وعدد من الأنشطة الأخرى، وهي من كبريات الشركات الأميركيّة العاملة في القطاع. وبرغم ارتباط «بانوراما» بـ«يو آند آر» التي يتبيّن أيضاً أنّ لغالبية مسؤوليها الكبار علاقات اسرائيليّة عميقة، لكن للأولى إدارتها المستقلة.
وسبق لـ«بانوراما» أن عملت (ولا تزال تعمل) لمؤسسات تونسيّة أخرى، منها على سبيل المثال لا الحصر، «الهيئة العليا المستقلة للانتخابات»، وبنوك بعضها مملوك للدولة، إضافة إلى صحف وشركات اتصالات. ويعني ذلك، أنّه إمّا أنّ يكون كل من يتعامل معها مُطبّعاً، وأنّه يجب حلّ «بانوراما»، أو أن تجري ملاحقتها والتحقيق بشأن علمها بارتباطات «يو أند آر» الإسرائيلية، المباشرة أو غير المباشرة. هذا مع العلم أنّ دافيد سابل، الذي اعتبره الناصفي «مالك الشركة، وعراب الجيش الإسرائيليّ»، لم يلتحق بـ«يو أند آر» إلا في عام 2011 (أي بعد عامين من ارتباط بانوراما بها)، ويشغل منذ ذلك التاريخ منصب «المدير التنفيذيّ العالمي»، وقد شغل قبل توليه المسؤوليّة مناصب عدة مماثلة في شركات أميركيّة. وتتوافر معلومات حول الرجل بشأن نشاطه سابقاً ضمن الطاقم الطبيّ للجيش الإسرائيليّ، ومساهمته في «منتدى سياسة إسرائيل»، وإنشائه شركة تكنولوجيّة هناك.
جدير بالذكر، أنّ الناصفي الذي سبق أنّ كان أحد قياديي منظمة «طلبة التجمع الدستوريّ الديموقراطيّ» التابعة للحزب الحاكم أيّام بن علي، ليس أوّل شخصية تونسية تتهم بن سدرين في هذا الموضوع بالذات، إذ قام بالأمر نفسه النائب ياسين العيّاري، وسبقهما أيضاً إلى الاتهام نفسه (منذ تشرين الأول/اكتوبر الماضي) العضو السابق في «هيئة الحقيقة والكرامة»، زهير مخلوف، وهو ما ردّت عليه «الهيئة» في حينه (بن سدرين كانت تُهاجم حتى منذ ما قبل عام 2011، يمكن الإحالة مثلاً على مقال بعنوان «سهام بن سدرين في وكر الجواسيس»، جاء فيه أنّ المرأة حققت بلجوئها إلى النمسا «جزءاً من أحلامها، (أن تكون) عيناً ساهرة من أعين الموساد»).
مصادر لـ«الأخبار»: قال السبسي للغنوشي إنّه لا مكان لبن سدرين


من جهة أخرى، هذه الاتهامات المتكررة التي يبقى القضاء التونسي السلطة الوحيدة المناط بها متابعتها، تفتح الباب أمام موضوع أشمل: هل تونس مخترقة فعلاً من قبل شركات إسرائيلية، ومن قبل مخابرات هذا الكيان؟ ثمّة أحاديث صحافية في تونس تشير إلى اختراق «الموساد» للبلاد (لعلّ أبرزها ما نُقل أخيراً عن رئيس «هيئة مكافحة الفساد» شوقي الطبيب، أنّ مسؤولاً رفيعاً في الدولة كشف له أنّ «الموساد» اخترق بنحو واسع إدارات الدولة التونسية، وبسهولة)، وثمّة أيضاً صحافي «متصهين»، هو سهيل فتوح، يروِّجُ لعمل «الموساد» في تونس وفي مجمل المغرب العربي (آخر ما قاله في هذا الصدد، جاء في مقالة نشرها بالفرنسية أمس).
ما هو معروف على هذا الصعيد، أنّه منذ اغتيال «الموساد» للشهيد محمد الزواري، نهاية 2016، باتت فصائل المقاومة ضد العدو الإسرائيلي، حذرة من الساحة التونسية، حتى إنّ الزيارات لتونس باتت محاطة بحذر شديد. وقد ازدادت الخشية أكثر حين كشفت تحقيقات، علمت بها «الأخبار»، أنّ «عنصراً في وزارة الداخلية التونسية، سهّل عمل المجموعة التي نفذت الاغتيال، علماً بأنّه لم يُعرَف إذا كان هذا الشخص يعلم بهوية المجوعة وبهدفها، أو لا».
ما هو معروف أيضاً، أنّ الحديث في تونس عن «اختراق الموساد» لم يعد سهلاً، إذ من جهة لا أدلة على هذا الموضوع في ظلّ تكتّم الأجهزة التونسية المعنيّة، ومن جهة أخرى يجري تسخيف كلّ من يثير موضوع كهذا، إلى درجة تدفع جدياً بعض المتابعين إلى إثارة التساؤل عن «وجود لوبيات إعلامية تُجهِض كل محاولة للحديث في هذا الصدد». وأمام صعوبة الوصول إلى أدلة بالخصوص (عدا أحاديث سهيل فتوح الدعائية)، يبقى أنّ سياسياً عربياً قال يوماً في حديث خاص: «تونس أصبحت مفتوحة أمام الجميع... الكل يعمل فيها».
بالعودة إلى قضية بن سدرين، فإنّ القضية أكثر تعقيداً من «التعامل مع شركة ذات علاقات إسرائيلية»، إذ إنّ مشكلة رئيسة «هيئة الحقيقة والكرامة» حالياً، سياسية بالدرجة الأولى. فهي تريد توسيع دائرة «مسار العدالة الانتقالية» والقفز نحو «إعادة كتابة تاريخ تونس»، بما يشمل إعادة كتابة تاريخ الاستقلال ودور الزعيم التونسي الحبيب بورقيبة.
رئيس تحرير «جريدة المغرب» زياد كريشان، يشرح في حديث إلى «الأخبار»، أنّ أحد أوجه الصراع الحالي بين «الهيئة» والأحزاب السياسية التي تواجهها هو «الاختلاف في تقييم (كل) ماضي ما قبل الثورة» وصولاً إلى دور بورقيبة في الاستقلال، وثمّة من يرى أنّ «بن سدرين تتعامل بقسوة مع ماضي البلاد ومع رموزه».
النائب حسونة الناصفي، نفسه، يؤكد صحة هذه القراءة، في حديث إلى «الأخبار». فهو يقول إنّ الأمر لا يتعلق بـ«عداء شخصي» مع بن سدرين، لكن المطلوب موقف واضح إزاء تعنتها بعدما «استكبرت على كل مؤسسات الدولة، ورفضها لأي حسيب أو رقيب»، معتبراً أنّ «الهيئة مسؤولة مباشرةً عبر تصريحات رئيستها وأدائها عن تقسيم التونسيين ونسف مسار العدالة الانتقالية». ويفسّر ذلك باصطفاف بن سدرين، منذ إنشاء «الهيئة»، وراء قوى سياسية محددة وإعلانها «جهراً معاداتها لأخرى»، مضيفاً أنّها عادت «لنبش الماضي وأخرجت مناضلي الحركة الوطنية بقيادة الرئيس الحبيب بورقيبة كخونة وعملاء للاستعمار».
يذهب الناصفي إلى القول إنّ «الرؤية البديلة لهيئة الحقيقة والكرامة ولمنظومة العدالة الانتقالية التي ستعوّض الهيئة، لم تتبلور بعد»، إلا أنّ مصادر خاصة بـ«الأخبار» أوضحت أنّه خلال اللقاء الأخير بين رئيس الجمهورية الباجي قائد السبسي، ورئيس «حركة النهضة» راشد الغنوشي، «أبلغ السبسي حليفه بأنّه لم يعد هناك مكان لبن سدرين، وأنّه وجبت إقالتها»، وهو ما ترفضه الأخيرة التي أعلنت أمس أنّها ستواصل أعمالها، وأن قرار البرلمان الأخير القاضي بعدم التمديد لها «لا يُعتدُّ به». أمام هذا المشهد، باتت تونس أمام أزمة سياسية ـــ دستورية، لعلّها ستكون الأصعب منذ 2014.