لم تكن الانتخابات الرئاسية محلاً لتساؤل ولا موضعاً لنقاش، فالنتائج محسومة بغياب أي تنافس جدي. بدت الانتخابات المصرية مجازية، والتعبئة غلبت المشهد طلباً لنزول المواطنين إلى صناديق الاقتراع (إنه ضد الإرهاب وتأكيد على الاستقرار ورسالة إلى العالم). الحرب على الإرهاب ليست قضية انتخابية تخضع لظروف طارئة، أو متطلبات دعاية، بقدر ما هي قضية إجماع وطني ضد خطر وجودي لا يستثني أحداً. إذا ما كانت هناك انتخابات تنافسية بين برامج وتيارات ورجال، من الطبيعي أن يدور نقاش عام حول مدى كفاءة استراتيجية هذه الحرب.ذلك لم يحدث ولا سدت الثغَر السياسية والاجتماعية والفكرية التي تمكّن جماعات العنف والإرهاب من التمركز والضرب في وجع من وقت لآخر. طلب الاستقرار قضية إجماع وطني أخرى لا تخضع لأهواء عابرة وحسابات متغيرة، لكن أي استقرار نقصد: ما يتأسس على دولة قانون وقواعد دستورية أم ما يفرض بقوة الأمن؟
عندما غاب التنافس، فقدت الانتخابات روحها وتقوضت أي فرصة لتصحيح الصورة أمام العالم. الانتخابات هي الانتخابات، والعالم ينظر في تنافسيتها وفي سلامة القواعد التي تحكمها وطول الطوابير أمام لجان الانتخابات، لا في تجمعات تغنّي وترقص ودعايات في الشوارع استدعيت بنفوذ الدولة. كان الإلحاح على أوسع مشاركة ممكنة السمة الرئيسة لتلك الانتخابات المجازية. إذا ما ارتفعت فهي مسألة شعبية، وإذا ما انخفضت فهي مسألة شرعية. لم تكن هناك ضرورة للوصول إلى هذا الوضع الحرج. رغم تراجع شعبية الرئيس الحالي على نحو لا ينكره هو نفسه، كان بوسعه أن يحسم أي انتخابات تنافسية ونزيهة بالنظر إلى وزن كتلة الاستقرار التي تخشى أي تغييرات مفاجئة في مركز السلطة.
إنه «رهاب الانتخابات» وسعي لتفويض جديد. ننسى ـــ أحياناً ـــ أن لكل شيء ظروفه وسياقه. كان التفويض ـــ الذي حصل عليه وزير الدفاع عبد الفتاح السيسي قبل خمس سنوات بتظاهرات مليونية لا شك في زخمها وإرادتها تعبيراً عن قلق جماعي من «العنف والإرهاب المحتمل»، الذي بدأ يطل برصاصه في الشوارع وثقة في قدرة الجيش على الحسم.
استدعاء ما اختلفت ظروفه مجافاة للحقائق، التي ترتبت على تجربة الحكم.
التفويض ـــ بطبيعته ـــ مؤقت لفترة محدودة ولهدف محدد، والدول الحديثة تحكم بشرعيات دستورية تلتزم مبدأ تداول السلطة عبر قواعد انتخابية لها احترامها. بصورة أو أخرى، فإن الانتخابات، التي بدت كاستفتاء على رجل واحد، سوف تلقي بظلالها على صورة المستقبل المنظور. هناك مساران افتراضيان لليوم التالي، الذي تبدأ به الولاية الثانية.
الأول يشوبه شيء من الأمل في إصلاح ما اختل، وتصحيح الصورة في الداخل قبل العالم بتحسين ملف الحريات العامة وحقوق الإنسان والبيئة السياسية والإعلامية ورفع أي مظالم خلف قضبان السجون وإعادة النظر في السياسات والأولويات، التي استدعت عدم مشاركة قطاعات غالبة ممن لهم حق الاقتراع ـــ كأنه احتجاج صامت. هناك تسريبات متواترة تزكي ذلك المسار، لكنها غير ممسوكة وغير مؤكدة، كما يصعب المضي فيه بالنظر إلى مراكز قوى تمركزت في بنية الدولة صادرت السياسة والإعلام وكل ما يتحرك في البلد. مثل هذا المسار الافتراضي، يقتضي أن يثور الرئيس على نظامه ويستجيب لمطالب مجتمعه وحقائق عصره. في مطلع عهده، دعاه الأستاذ محمد حسنين هيكل ـــ من حرصه على نجاح تجربته ـــ إلى الثورة على نظامه، ولم تكن هناك أي استجابة، أو بحث في الفرص المتاحة.
والثاني، مزعج بقدر ما ينذر، كأن يضيق المجال العام بأكثر مما هو حادث وتتسع سطوة الدولة على مؤسسات المجتمع المدني وتدخل مصر كلها إلى حالة ترويع يضرب في الاستقرار وفرصه والأمن وضروراته ويساعد الإرهاب على التمركز ويسحب على المفتوح من أي أمل في المستقبل. ذلك ضد النظام السياسي الحالي بقدر ما يزيد الهوة مع شعبه بدلاً من الانفتاح على مكوناته والحوار معها بندية واحترام.
في اليوم التالي للانتخابات، هناك منزلقان ماثلان: تأسيس حزب سلطة جديد من داخل «ائتلاف دعم مصر» باسم توفير «غطاء سياسي» يفتقده الرئيس، وتعديل الدستور بما يفتح فترات الرئاسة بغير سقف. لم يكن لنواب الائتلاف أدوار يعتد بها في حشد المواطنين إلى لجان الانتخابات، فالأدوار كلها احتكرتها أجهزة الدولة الأمنية والإدارية والمحلية.
هناك فارق جوهري بين القدرة على الحركة والتأثير والإقناع بالوسائل السياسية، وبين العمل تحت ظلال الدولة وتعليماتها، كأنه زهرة عباد شمس. بالتعريف، فإنه ائتلاف برلماني يلخص نفسه في دعم القرارات والتوجهات الرسمية.
وقد وصل تماهيه مع ما هو تنفيذي إلى حد أنه لم يتقدم باستجواب واحد لأي وزير، لا راقب أعمال السلطة التنفيذية ولا دافع عن الحريات العامة وحقوق المواطنين على النحو الذي يلزمه به الدستور. وبالتكوين، نشأ الائتلاف من أحزاب متعددة لا رابط بينها سوى الولاء للسلطة التنفيذية. ذلك لا يؤسس لحزب موحد له تأثير ووزن ـــ حتى بالقياس على الحزب الوطني. ثم إن الدستور يمنع تعديل الصفات الحزبية، أو المستقلة للنواب. وذلك مأزق لا فكاك منه ولا مخرج.
وجه الخطر في هذا النوع من التفكير محاولة إعادة إنتاج الماضي بكل آلياته ومصادرة مبدأ تداول السلطة ـــ كأن تبقى المعارضة داخل جدران أحزابها تكلم نفسها في أفضل الأحوال ولا تملك أي فرصة للاحتكام الجدي إلى الرأي العام عبر صناديق الاقتراع. من أفضل ما ينسب للرئيس، الذي توشك ولايته الثانية أن تبدأ، رفضه القاطع لإنشاء حزب سلطة جديد طوال السنوات الأربع الماضية. إذا ما أنشئ فإنه تطور بالغ السلبية، لكنه يبدو في نظر معارضين أفضل مما نحن فيه من جفاف سياسي ـــ كأنه خيار بين السيئ والأسوأ. ما تحتاج إليه مصر هو أن تتنفس بحرية وفق قواعد حديثة لا أن تجبر على مثل هذه الخيارات. ما هو طبيعي بقوة الدستور أفضل بيقين مما هو مصطنع بتدخل الدولة. الأخطر في هذا النوع من التفكير السعي شبه المعلن لتعديل الدستور تمديداً للفترات الرئاسية. هذه مسألة شرعية لا نقض فيها.
هناك التزام رئاسي معلن، لأكثر من مرة وبأكثر من صيغة، بعدم التلاعب بالدستور لإجراء مثل هذا التعديل.
أي تعديل يمد فترات الرئاسة عودة كاملة إلى الماضي، ومصر في غنى عن هذه العودة التي تنذر بأوضاع يصعب استقرارها، كما لا تحتمل تكاليفها. التعديل يصطدم بنص ملزم لا يمكن تجاوزه إلا بإلغاء الدستور نفسه والدعوة إلى وضع دستور جديد، وهذه كارثة سياسية غير محتملة في بلد منهك. تنص المادة (٢٢٦) على أنه: «... في جميع الأحوال، لا يجوز تعديل النصوص المتعلقة بإعادة انتخاب رئيس الجمهورية، أو بمبادئ الحرية، أو المساواة، ما لم يكن التعديل متعلقاً بمزيد من الضمانات». إذا ما نسفت القواعد الدستورية لا يبقى بنياناً... وإذا ما احترمت يمكن التطلع إلى المستقبل بثقة.
هذا هو الاختيار.
* كاتب وصحافي مصري