عدوان من غير شهداءالغريب أنّ لدينا، الى الآن، نسختين مختلفتين تماماً عمّا جرى في سماء سوريا ليلة السبت. قالت الحكومة الأميركيّة إنّ العدوان الغربي قد استخدم أكثر من مئة صاروخ، كانت موجّهة ضدّ ثلاثة أهدافٍ تمّ تدميرها، وأنّ كلّ صاروخٍ ــــ من دون استثناء ــــ قد وصل الى هدفه وأصابه. مصادر روسيّة، من جهةٍ أخرى، قالت إنّ الضربة كانت أوسع بكثير، وتستهدف أكثر من ثمانية مواقع في سوريا، وأنّ أكثر من 70 في المئة من هذه الصواريخ قد أسقطتها وسائط الدفاع الجوي السّوري، وقد تمّت حماية عددٍ من هذه المواقع بالكامل.
الحكومة السوريّة لم تقدّم تفاصيل، واكتفت بالتصريح بأنّه لم تكن هناك خسائر بشريّة، وأنّ الدفاعات السورية قد أسقطت عدداً من الصواريخ المعتدية. هذا هو «الحد الأدنى من الحقيقة» الذي نعرفه، وما بين الروايتين ــــ الروسية والأميركية ــــ يحتاج التأكيد الى أدلّة قد لا تتاح لنا. السرديّة الروسيّة تبدو مغرقة في التفاؤل، ولكن النّسخة الأميركيّة لا يقلّ تصديقها صعوبة: أن تصيب مئة صاروخ جوّالٍ أهدافها من دون هامش خطأ هو أداءٌ لن تحصل عليه حتّى في الاختبارات (حيث يتوقّع أن تتوه نسبةٌ من الصواريخ الجوالة، تختلف بحسب جيل الصاروخ وحداثته ولكنّها لا تصل الى الصّفر، أو أن تسقط في طريقها لأخطاء تقنية). في الوقت ذاته، شكّك بعض المراقبين بأن تكون هذه الكمية الكبيرة من الصواريخ قد رُصدت لثلاثة أهدافٍ فحسب كما يدّعي الأميركيون. يقول البنتاغون، مثلاً، أنّ 76 من هذه الصواريخ كانت موجّهة لتدمير ثلاثة أبنية في مركز البحوث قرب دمشق، وهو يبدو رقماً غير منطقيٍّ ولا يتوافق مع مستوى الدّمار الذي تمّ عرضه اثر الغارة (للمقارنة، تمّ ضرب مصنع «الشفاء» في السودان عام 1997 بأقلّ من ربع هذا العدد، وتمّ تدمير المجمّع يومها بشكلٍ كامل).
في الوقت نفسه، فإنّ الرّواية الروسيّة عن إسقاط أكثر من 70 صاروخاً تحتاج الى أدلّةٍ وتوثيق لكي تحوز مصداقيّة في العالم، وقد خرجت على الأقلّ صورةً أو صورتان تظهر أجزاءً من صواريخ جوالة فرنسية الصنع تحطّمت في سوريا (كالعادة في مثل هذه الحالات، ظهرت على وسائل الإعلام ايضاً صورٌ زُعم أنها لبقايا صواريخ «توماهوك» وهي ليست كذلك، أو تعود لحطام صواريخ «سام»). مع العلم بأنّ إسقاط صواريخ جوّالة ليس صعباً أو مستحيلاً ــــ ومن هنا اتّباع أسلوب «الإغراق» ــــ ونظامٌ روسيّ حديث مثل الـ«بانتسير» الذي تملكه سوريا يقدر، إن وجد نفسه في موقعٍ مناسب، على إسقاط عددٍ كبيرٍ من هذه الصواريخ (خاصّة في غياب حربٍ الكترونية وقمعٍ للرادارات وتشويش). كما أنّ طواقم الدّفاع الجوي السوري قامت في الماضي القريب في أكثر من مناسبة، كما ذكّر خبراء، بإسقاط ذخائر إسرائيلية وصواريخ أسرع وأصغر من الـ«توماهوك» ومن الأصعب إصابتها.

المغزى السياسي
غير أنّ هذا النّقاش أعلاه، وإن كان مهمّاً لشركات الأسلحة ولدولٍ كبرى تريد أن تثبت قدرتها على الرّدع أو الدّفاع، هو تفصيلي الى حدّ ما بالمعنى السياسي الأعمّ. ما أن تقرّر أن يكون العدوان الغربي محصوراً بضربة صواريخ جوّالة فإنّ ذلك حكم، بغض النظر عن عدد الصواريخ وكم منها أصاب هدفه، أنّها ستكون ضربة محدودة وغير مؤثّرة ولا تدفع للتصعيد. الصواريخ الجوالة تصلح لضرب نقاطٍ حسّاسة معيّنة أو تنفيذ اغتيالات أو التحضير المسبق لضربة جويّة كاسحة ولكنّها، في ذاتها، صغيرة التأثير وقليلة العدد ولا يمكن أن تغيّر ميزاناً عسكرياً أو أن تؤثّر على قدرات جيشٍ ودولة. يكفي أن نشير هنا الى أنّ هذه «الضربة»، التي خشي الكثيرون أن تكون بدايةً لحربٍ واشتباك، انتهت من دون قتيلٍ واحد، وبتدمير عددٍ من المباني تحوي صفوفاً ومختبرات، فيما ضربات أميركيّة جويّة سابقة كانت تجري ــــ بحسب زعم واشنطن ـــ «بالخطأ»، أدّت الى استشهاد مئات الجنود وزعزعة نقاطٍ عسكريّة مهمّة.
نقطة البدء في التحليل هي أن نتحرّر من مقولة أنّ الضّربة «لم تكن جدّيّة» أو أنّها «مسرحيّة» أو «رمزيّة». كما علّق أحد الأصدقاء، لا وجود لشيء اسمه «ضربة غير جدّيّة» أو «تمثيلية» الّا في منطق الأفلام السينمائية والعقل المؤامراتي. توجد أشكالٌ ومستويات مختلفة من الاشتباكات (قد تكون صغيرة، كبيرة، متردّدة، كاسحة، الخ) ولكنّها كلّها جدّيّة، فلا أحد يرمي صاروخاً على آخر هذراً؛ ومستوى المواجهة لا يتحدّد بالصدفة، بل يعكس حسابات الطرف المهاجم ومخاوفه وأهدافه ودرجة احتسابه من الخصم. وهنا الأمثولة السياسية لما جرى، وهي أنّ اميركا لا تريد حرب مواجهةٍ في سوريا، ولا صداماً عسكرياُ مع روسيا فيها (مع العلم بأنّ روسيا، هي الأخرى، لن تحارب اميركا في سوريا ــــ مهما حصل، تقريباً ــــ ولن تواجه الغربيين في موقعٍ بعيدٍ عن حدودها، حيث الميزان العسكري محسومٌ لصالحهم. ولكنّ تصعيداً عسكرياً من اميركا، أو ضرباً لقوات روسيّة في سوريا، سيشتعل بالضرورة في اوكرانيا وغيرها من مناطق التوتّر ولا يمكن التنبؤ بمآلاته).
المنطلق الأساسي هنا هو أنّ ترامب قد تصرّف بناء على ميزان قوى، وليس لذرّ الرماد في العيون أو لخداعك والتمثيل عليك، ايّها العربي، فهو لا يحتاج الى ذلك. الغريب هو أنّ العديد من الأوساط العربيّة، التي يفترض أنّها «متنوّرة» و«عقلانية» ومتحرّرة من الخطابات «الخشبية» القديمة، أصبحت تؤسس لخطابها السياسي بمعادلات من نوع أنّ أميركا تتآمر عليهم، وأنّها (سرّاً) تقاتل لأجل بقاء الأسد، وهي تدّعي دعم قوى «المعارضة السورية» على الأرض ولكنها في الحقيقة تساعد عدوّها، ونظريّات مؤامرة لم يخرج بمثلها منظّرو «اللغة الخشبية» الأصليين. الفكرة هنا بسيطة: منذ أواسط القرن العشرين، تملك القوى الكبرى وسيلتين لإسقاط حكومةٍ في العالم الثالث، امّا عبر تمويل حركاتٍ مسلّحة ودعم انشقاقات داخليّة وشنّ حربٍ على البلد من الدّاخل، أو عبر ضربه مباشرةً واحتلاله؛ وهم قد فعلوا الأولى ــــ وفشلوا، بثمن تدمير سوريا ــــ وليسوا ببساطةٍ قادرين على الخيار الثاني أو راغبين بتحمّل كلفته. وهذا ليس وليد الصّدفة أو بسبب «جبن» ترامب وتواضع أهدافه في بلادنا، بل هو نتاج ميزان قوّةٍ كان ثمنه تضحياتٌ ودماء، وقتالٌ مريرٌ لأكثر من سبع سنوات.

الإعلام والثقافة والضربة الأميركية
ما زلت لا أفهم لماذا لا زال العديد من المثقفين العرب يتعاملون مع كلّ حدثٍ مماثل لا من منطق الحجّة والمعلومة والنقاش حولها، بل من منطق أنّها «مناسبة»، تستدعي منهم أن «يأخذوا موقفاً»، كأنّهم كيانٌ أو حكومة، وكأنّ موقفهم هذا هو جزءٌ من عملية صنع القرار في الحروب والغزوات. القضية هنا هي أنّ موقفك عن سوريا، في حالة النّخب، لا يعبّر عن تأمّلٍ عميقٍ ودراسةٍ (والّا لكانت الآراء متنوّعة داخل كلّ معسكر، ولاختلفت مواقف أفرادهم عند كلّ مناسبة، ولما كنت قادراً على التنبؤ بـ«موقف» المثقف من الوسط الذي ينتمي اليه)؛ بل إنّ موقفك عن سوريا ليست له الّا علاقة طفيفة بسوريا نفسها وما يجري على أرضها، بل هو قبل أيّ شيءٍ يعبّر عنك انت: عن موقعك ووظيفتك وشبكة مصالحك، عن الجّوّ الذي تنتمي اليه أو تريد أن تكون مقبولاً فيه، عن مصادر التمويل التي تخدمك وتخدمها والأبواب التي لا تريدها أن توصد. المسألة لا علاقة لها بـ«الأخلاق» أو المبادىء أو السياسة، وأقلّ ما يمكن أن تتعلّمه وسط هذه «المواقف» والجدالات والشتائم هو شيءٌ حقيقيّ عن سوريا نفسها؛ بل إنّ ما يتمّ استعراضه هو توزّع القوى والمصالح والحوافز في الثقافة والإعلام في المنطقة العربيّة، تماماً مثلما يقرّر الميزان العسكري شكل المواجهة في الميدان (أذكر، على الهامش، نقاشاً شهدته في الماضي بين «مثقفين» عرب يتجادلون، بكلّ جديّة، حول ما إن كان «يجوز الفرح» بضربات اسرائيل لسوريا؛ كأنّ هذا كلامٌ في السياسة، وكأنّ مشاعرك الداخلية هي ما يهمّ ــــ وانت، أصلاً، حين تصل الى هذا النّقاش، تكون قد ابتعدت كثيراً وقرّرت مكانك وتموضعك، ولم يعد يهمّ أن تفرح أو تحزن).
ضدّ الاستخدام الشائع لمفهوم «المثقّف العضوي» الذي صاغه انتونيو غرامشي، باعتباره «صفةً ايجابيّة» أو مديحاً يقال لمناضل، فإنّ غرامشي كان يقصد أنّ كلّ مثقّف، في العصر الحديث، هو بالضرورة «مثقّف عضوي»، بمعنى أنّه ينتمي حكماً الى شبكة مصالح وانحياز وليس، كما تصوّره الفكرة الكلاسيكية عن المثقّف، انساناً يفكّر بتجرّدٍ كامل، يزن الأمور بعقلانية ويجلس في برجٍ عاجيّ. وظيفة المثقّف هي أن يخدم كتلة تاريخيّة وأن يعيد انتاجها ولهذا السبب أنت تجد، بحسب غرامشي، «مثقف برجوازي عضوي» (و«مثقف عضوي للدولة» و«مثقف كومبرادوري» الخ) و، بالمثل، مثقّفٌ عضويّ للطبقة العاملة أو لأبناء المستعمرات. يضيف غرامشي أن هذه الكتل، وأدوار المثقفين، سائلة ومتغيّرة بحسب الظروف والحوافز. وفي حالة سوريا تحديداً، فإنّ بنية الحوافز بمقاييس الطبقة الوسطى المثقفة (سواء في المنطقة العربية أم في الغرب) هي واضحة وساطعة، وهي تفسّر (قبل أيّ شيءٍ آخر) مواقف نخب العرب من الضربة الأميركية ــــ وما قبلها وما بعدها، وهنا مصالح وانتماءات لا تريد نقاشاً ولا ينفع معها الجدال.
من يحاول، في المعسكر الغربي والخليجي، أن يقيم معادلة في الانتهازية والحوافز بين من اختار أن يقف مع المقاومة ومع أعدائها يكذب على نفسه (أو هو يتخيّل أن النظام السوري يدفع الأموال ويشتري النخب مثل الخليج. لو كنت من هذه الفئة وكان لديك خيار، هل تفضّل أن تقضي زمالتك ومؤتمراتك في برلين أم في البصرة؟ هل تفضّل أن تدرّس في الجامعة الأميركية أم في كلية شعبية فقيرة؟ هل تفضّل راتباً خليجياً أو رواتب الإعلام الحكومي؟ لهذه الأسباب أنا أكرّر بأنّ المعركة على الطبقة الوسطى، في سياقنا الحالي، خاسرةٌ سلفاً وانت لن تتمكن من إغراء هذه الفئة أو «كسبها» مهما فعلت). بالمناسبة، الجوّ في الغرب لا يختلف كثيراً عن الأوساط العربية حين يتعلّق الأمر بسياسات بلادنا، حتّى في الأكاديميا: دعوكم من المثال الخيالي عن «الاستاذ الثائر من داخل النظام»، واستثناءات فرديّة وجزئية مثل ادوارد سعيد، الجو بين الأساتذة في اميركا ضاغطٌ للغاية وسامٌّ الى درجة أن العديد من الباحثين الجديين (في مجال الشرق الأوسط تحديداً) يفضّل عدم الكلام في السياسة وتجنّب التعبير عن رأيهم والتعرّض الى زمر الشتّامين الذين تحرّكهم المصالح واللوبيات.

خاتمة
لا يهمّ، اذاً، أن تفرح للضربة أو تحزن لأنّ ترامب لم يقصف بالقدر الذي تتمنّى، فهذا لا معنى سياسياً له، والإعلان الدّائم، بصخبٍ وعدائية، عن انتمائك وولائك لمن يموّلك ولشبكتك ولـ«الشلّة» هو عمليّة ذاتيّة لا علاقة للآخرين بها، ويستحسن أن لا تمارسها بحجّة قضايانا وحقوقنا ودماء أطفالنا. في السياسة، مجدّداً، حجّة مؤيّدي الغزو منذ عقود تقوم دوماً على أساسٍ وحيد، وهي أنّ هناك شيئاً اسمه «أن تضرب اميركا بشّار» (أو صدّام أو القذّافي)، ونحن نقول إنّ هذه كذبة تغطّي واقعاً مريعاً، وإنّ لا علاقة (اليوم أو في الماضي) بين أن تكون ضدّ تدمير البلد وزيادة خرابه ومآسيه وبين موقفك من النظام. من جهةٍ أخرى، إن كنت تؤيّد ضرب سوريا (أو ليبيا أو العراق) للتخلّص من النّظام، فهذا موقفك ويمكن أن تدافع عنه، ولكنّ لا ضرورة لتجميله أو تزييفه (وأطرف من هذا من يعتبر أنّه «لا بأس» بغزوٍ أميركي لأنّ سوريا أصلاً مدمّرة ومستباحة، أي أنّه قرّر ــــ نيابة عن السوريين ــــ أنه لا يضيرهم أن يحتملوا اجتياحاً أميركياً فوق كلّ ما احتملوه).
الحرب لم تحصل على أيّ حال، والأذى الذي سبّبته أميركا وحلفاؤها لسوريا عبر الـ«موك» والـ«موم» لا يقارن بضربةٍ صاروخيّة أو تدمير مبانٍ فارغة. وما كان يحضّر لنا، وليس لسوريا وحدها، في حال سقوط ما تبقّى لا يمكن تصوّره (في ادلب اليوم، مثلاً، الخيار هو بين ميليشيات سلفيّة مجنونة، وأخرى سلفيّة مجنونة، والاحتلال التّركي؛ والكثير من المثقّفين الذين يدعمون «الثورة» من الخارج يعرفون جيّداً أنّهم سيقتلون على الفور لو وطأوا أرضها). يمكن للبعض أن «يخيب» لأنّ حرب ترامب لم تتحقّق، ولأن صواريخه طاشت، ولكنّ ذلك لأنّه لا يرى الأمور من وجهة نظر من دافع عن القلعة، وصمد صموداً أسطورياً، مع حلفاء قلائل، في وجه قوىً لا يمكن وصفها. من يتذكّر كيف كان وضع سوريا أواخر عام 2012 مثلاً، حين كان السّقوط قريباً والسّكاكين حولنا تسنّ، يعرف أنّ من استردّ البلد شبراً شبراً لن يفرّط بها اليوم أو غداً، في وجه ترامب أو غيره.