تونس | بعد انتظار طويل وأشهر من التجاذبات السياسية، بدأت أمس رسمياً مناقشة الدستور التونسي الجديد في ضاحية باردو وسط العاصمة التونسية، بعد أن أقر الحوار الوطني الذي دعت إليه المنظمات الراعية مجموعة من التوافقات التي كانت محل خلافات عميقة بين الفرقاء السياسيين. الجلسة الأولى لمناقشة الدستور شهدت غياب ١٤ عضواً من جملة ٢١٧ عضواً من أعضاء المجلس الوطني التأسيسي، ويُفترض أن تنتهي مناقشة الدستور قبل يوم ١٣ كانون الثاني الجاري ليحتفل التونسيون بصدور ثاني دستور للجمهورية التونسية بعد دستور سنة ١٩٥٩ الذي شهد الكثير من التعديلات كانت وراء حرمان البلاد بناء تجربة ديموقراطية، من أهمها الرئاسة مدى الحياة للزعيم الحبيب بورقيبة.
وفي مشروع الدستور الجديد مجموعة من العناصر الإيجابية التي من شأنها بناء نظام ديموقراطي يمنع الاستبداد وحكم الحزب الواحد؛ إذ تنص فصول الدستور على الفصل بين الحزب والدولة ومدنية الدولة، وتحدد الولايات الرئاسية بدورتين فقط. وتنص على المساواة بين المرأة والرجل.
ويقلص الدستور الجديد من صلاحيات رئيس الجمهورية لحساب رئيس البرلمان ورئيس الحكومة، بما يمكّن تونس من نظام مزدوج رئاسي برلماني، وهو ما سيقطع طريق طموحات الاستبداد أمام اي ديكتاتور أتٍ.
وينص مشروع الدستور الذي بدأت مناقشته أمس على إحداث محكمة دستورية تراقب دستورية القوانين، فضلاً عن حياد الإدارة والمساجد وحرية الإعلام واستقلالية القضاء.
من ناحيته، رأى رئيس المجلس الوطني التأسيسي، مصطفى بن جعفر (الصورة)، أن هذا الدستور الجديد يعبّر عن الروح التونسية، وأنه دستور «ممتاز من حق تونس أن تباهي به العالم».
ومرت مناقشات الدستور في مخاض عسير؛ إذ طالب الإسلاميون باعتبار الاسلام والشريعة مصدراً للتشريع، وهو ما تحفظت عليه القوى الديموقراطية التي عدّت هذا الفصل مثيراً للفتنة وباباً للتراجع عن مدنية الدولة، وطالبت بالإبقاء على الفصل الأول من الدستور القديم الذي ينص على أن تونس دولة عربية، الإسلام دينها والعربية لغتها والجمهورية نظامها. وقد استجابت حركة النهضة (صاحبة العدد الأكبر من المقاعد في المجلس) لهذا الضغط الشعبي، ما أثار غضب باقي التيارات الإسلامية من سلفيين وحزب تحرير الذين اتهموا «النهضة» بالنفاق والتخلي عن المشروع الاسلامي.
كذلك خاضت القوى الديموقراطية والنسوية معركة كبيرة لفرض مبدأ المساواة بين المرأة والرجل، الذي أرادت «النهضة» تعويضه بمبدأ «التكامل»، وهو ما عدّته الحركة الديموقراطية والنسوية مقدّمة لتصفية حقوق المرأة واستجابت كتلة «النهضة» أيضاً لضغط الشارع وجرى تحوير الفصل.
ورغم هذه التراجعات من كتلة «النهضة» ونجاح المنظمات الراعية للحوار الوطني في فرض التوافقات وجعلها مُلزِمة في كتابة الدستور، سجّل مكتب الضبط في المجلس التأسيسي قبل بداية مناقشة فصول الدستور أكثر من ٢٥٠ اقتراح تعديل. فهناك خلافات في توطئة مشروع الدستور تتعلق بمسألتين: الأولى تهمّ البسملة (بسم الله الرحمن الرحيم)، حيث طالب عدد من نواب المعارضة إلغاءها. أمّا الثانية، فتتعلق بعبارة «تأسيساً على تعاليم الإسلام» التي رأى نواب المعارضة أن هذه التركيبة «خطر» على الدستور، مشيرين إلى أنّ المقصود بتلك التركيبة اللغوية أنّ مقاصد الإسلام وتعاليمه هي التي تؤسس الدستور، ودعوا إلى تبديل كلمة «تأسيساً» بـ«استئناساً».
أما في ما يتعلق بالمصطلحات اللغوية، فقد طالب عدد من النواب بتعويض عبارة «التوظيف السياسي والحزبي» بـ«التوظيف السياسي». وسجّل خلاف أيضاً حول الفصل الـ 48 من الباب الثاني للدستور الذي ينص على أنّ القانون يقرّر الضوابط المتعلقة بالحريات، وهو فصل أثار خوف عدد من النواب من الكتلة الديموقراطية المعارضة. ومن بين نقاط الخلاف أيضاً صلاحيات رئيس الجمهورية، وخاصة ما يتعلق بسلطة الرئيس في حل البرلمان والسلطة التنفيذية وتركيبة المجلس الأعلى للقضاء واستقلالية النيابة العمومية التي طالب عدد من النواب بأن تكون مستقلة عن وزير العدل.
لكن رغم هذه الخلافات، يعتبر الوصول إلى مناقشة مشروع الدستور فصلاً فصلاً، وتحديد سقف ١٣ كانون الثاني للتصديق النهائي عليه، حدثاً بارزاً بالنسبة إلى التونسيين الذين أنقذتهم خريطة الطريق.