مطر عدوانغادر سامر العيساوي المعتقل، وخرج من «إيشل» في فلسطين المحتلة عام 1948. غادر بإرادته، ولم يفرج عنه بإرادة السجان. سامر الذي اضطر سجانه إلى الإفراج عنه بعد معركة طويلة طويلة... طول أيام الجوع والصيام الإرادي، قهر
السجان.
أتذكر حين كنت لا أزال تلميذاً في المرحلة الابتدائية، سأل أحد تلامذة الصف مدرس العلوم يومها: «ما هي المدة التي من الممكن للإنسان أن يبقى حياً فيها من دون طعام؟»، فأجابه المدرس: «أسبوع، وبعض الحالات تستطيع البقاء لفترة عشرة أيام». من المؤكد أن هذه المدة، قد تزيد على ذلك أو تنقص عنه، لكنها لن تصل إلى تسعة أشهر من الجوع والصيام الإرادي، أو لنقل تسعة أشهر من الكرامة، وإرادة الحياة. لكن سامر العيساوي فعلها. هو الذي كسر القواعد، وغيّر المألوف. تسعة أشهر من المعاناة، ومن نقص الوزن، وسرعة الموت، وحب الحياة، هكذا يكون الأبطال، وهكذا يعيدون خلق الأساطير.
خلال فترة إضراب سامر عن الطعام، كنا نستطلع صوره في مجلة «الحرية»، وكنت دوما أتساءل في ما بيني وبين نفسي: «ما الذي يمتلكه العيساوي ليستطيع رفع التحدي بهذه الطريقة؟ أو أنه قد يكون فقد كل شيء، ولم يبقَ له شيء ليخسره؟ وإن نجح بتحقيق نصر وإملاء شروطه على السجان، فما الذي سيقوله حين يخرج من بوابة
المعتقل؟
وفي الحقيقة، لم أنتظر طويلاً، فقد أجابني العيساوي بذاته. كان ذلك خلال تغطيتنا الأسبوعية لتطورات الإضراب وردود فعل الاحتلال الإسرائيلي عليه، والمفاوضات التي أدارها العيساوي، مع إدارة السجون، كأكبر المفاوضين الحاذقين في تحصيل حقوقهم، ليحصل على ما يريد كما يريده، دون تعديلات
إسرائيلية.
تمكن العيساوي من أن يدير معركته، وشكل الحالة التي لا مجال فيها للمواربة، الضعيف حقاً، هو سامر، هو الذي هزل جسمه، وهو المقيد، وهو الأسير. والطرف المقابل يكفي أنه صهيوني لتجتمع فيه الصفات المذمومة كلها تحت هذا العنوان.
نجح سامر بفرض شروطه على المحتل الإسرائيلي في أقل من تسعة أشهر، وحقق إنجازاً باهراً لكافة أبناء الشعب الفلسطيني، في الوقت الذي يقضي فيه المفاوض الفلسطيني منذ أكثر من عشرين سنة في تفاوض من دون نتائج مع العدو ذاته، اللهم إلا ما «حققوه» من خسارة المزيد من الأرض والحقوق والمزيد من التنازلات والتعري الأخلاقي والسياسي أمام شعبهم والعالم.
الأسبوع الفائت طالعتنا وسائل الإعلام، بمشروع قانون إسرائيلي مقدم من حزب الليكود اليميني، يقضي بضم منطقة الأغوار الفلسطينية إلى الأراضي التي ضمتها إسرائيل سابقاً.
يا إلهي! لو كان المفاوض الفلسطيني على مستوى تضحيات أسرانا! لو كان يشعر على الأقل بأن القضية قضية حياة أو موت، تماماً مثل سامر العيساوي وسواه من الأسرى المحررين الذين فرضوا إرادتهم على المحتل.
لو كان المفاوض الفلسطيني كذلك، فهل كان بوسع العدو الجشع الذي لا يشبع أن يقترح قانوناً كهذا؟ هل كانت الحكومة ستجرؤ على التصديق عليه؟ كل هذا في وقت أصبحت فيه أراضي الضفة الفلسطينية، وفق القانون الدولي، أراضي محتلة.
ووفق القانون الدولي، لم يفعل المفاوض الفلسطيني شيئاً! كل ما قام به أنه شجب واستنكر بالطبع، وفي النهاية أدان القرار، وكأن تلك الأغوار الفلسطينية ليست فلسطينية. كأنها تتبع لدولة أخرى، في وقت يستطيع فيه هذا المفاوض الدخول إلى منظمات الأمم المتحدة التي لو عرف كيف يدير معركته فيها، لربما كانت ستجعل إسرائيل تعدّ للمليون قبل أن تقبل، حتى بمرور مشروع قانون كهذا على طاولة حكومتها.
سامر العيساوي هو مثال المفاوض الذي يجب أن يتولى المفاوضات مع العدو الذي يعرف وحشيته جيداً. أما أولئك القابعون بعيداً، خلف مكاتبهم وربطات أعناقهم الثخينة، فربما على أمثال العيساوي أن يحلوا مكانهم؛ فسامر ورفاقه استطاعوا أن يعلنوا دولة جديدة لفلسطين اسمها الحرية، وما فعلوه لا يعني سوى معنى واحد، أن هذا الشعب الذي يلد مثل هؤلاء، فعلاً يستحق الحرية.