كسب | لا يُبدي السوريّ العابر إلى كسب الحدودية تفهّماً حيال اللون الأحمر المطل من بين أشجار عتيقة متكاتفة، والحامل نجمة وهلالاً يتربصان بالحدود. قبل الوصول إلى النقطة الحدودية بعلَمها الذي يصفع الزوار، تمضي يساراً نحو مدينة كسب، تاركاً الكثير من التعليقات عن المشهد. هذه هي الحال بالنسبة إلى السوريين عموماً، فكيف بالنسبة إلى أرمن كسب، سكان هذه المنطقة! المساحات الجبلية الخضراء تشعرك بسطوة المكان الزاخر بأعتى الجبال، تلك التي شهدت أعنف المعارك بين الجيش والفصائل المسلحة، إلى أن تمت استعادتها قبل سنوات بالنار والدم. آثار الحرب الباقية على بعض المباني المهدمة قد تجعلك تترفق في خطوك، فهُنا قضى رفاق السلاح أو أصيبوا، زارعين في الأرض خلاياهم أو أعضائهم. منصور وهيثم وعلاء ووائل وكفاح وغيرهم الكثير من الذين شهدت الجبال والأشجار على أوجاع إصاباتهم. وقد تنصت قليلاً إلى خيالات المعارك القديمة، عندما كان صوت الشهيد شعبان العوجا يخيّم على القمم العالية، مصدراً أوامره بالاستهدافات لغزاة كسب. وهُنا قد تستوقفك شجرة كرز قطف الرائد مهند عبد الله أحد عناقيدها محتفلاً باستعادة هذه الأرض، في مواجهة الشر الآتي من الشمال. جميعهم بعيدون من كسب التي قامت بالسلامة، بينما انتقل بعضهم إلى العالم الآخر راضياً مرضياً، ومنهم من ينتظر متابعاً مسيرته «الطوباوية» على جبهات أُخرى، ومنهم من يتمركز في بعض النقاط القريبة من الحدود، يحرس أمل الأهالي الذين عادوا إلى بيوتهم وأرزاقهم ومطاعمهم الشهيرة، تحت أعين عدو قريب متربص بهم وبالبلاد. مطاعم المنطقة عادت إلى فترتها السياحية الذهبية، لا سيما يومي الجمعة والأحد. لا بد من الاتصال وحجز طاولة لدى أي منها، وإلا يمكن للمرء أن يعود أدراجه إلى حَرّ اللاذقية بعد طريق طويل وشاق ومتعرج. واللافت أن منطقة سياحية على هذا القدر من الجمال، ولها اليوم رمزية هامة في وجدان السوريين، محكومة بأسوأ طريق يمكن عبوره للوصول إليها. منحدرات خطرة، وتعرّجات مفاجئة، ضمن طريق يصنّف على أنه دوليّ، يحتاج إلى تعبيد في الكثير من أجزائه وتجتازه السيارات في اتجاهين، إضافة إلى مطبات وحفر على طول الطريق، ما قد يجعل من حوادث السير أمراً حتميّاً.
انتهك الجدار أراضي كسب بعمق تراوح بين 200 و600 متر


في أحد المطاعم المطلة على الحدود يتبادل اللاذقيون الأخبار. طاولات بلاستيكية متواضعة على أرضية ترابية، توضع بين أشجار متنوعة، فيما الهواء يبدو لطيفاً بعيداً من رطوبة المدينة المزدحمة. جبال محيطة على مد النظر، بقممها الخضراء، لا يعكّر لونها الكثيف، سوى بقع جرداء متفرقة، تدل على حريق سابق أو هجمات تحطيب بشرية. وفي لحظات الصمت بين حديث وآخر، يمكن التأمل في الجدار التركي الذي يقسم الجبال المواجهة، خارقاً جمالية الطبيعة البكر. يتبادل الناس الأحاديث حول انتهاء إنشاء هذا الجدار الأبيض، قبل أشهر قليلة، على طول الحدود السورية- التركية. يتناقلون أخبار سكان المنطقة من السوريين الأرمن الذين انتهك الجدار أراضيهم، من خلال دخوله 200 متر في عمقها، فيما يدخل في عمق بعض الأراضي مسافة تصل إلى 600 متر. أمرٌ أرّق سكان المنطقة، بخسارتهم أجزاء من أراضيهم وأرزاقهم. يقول أحدهم معلقاً على الأمر: «هذا يثبت أن التركي عدوّ تاريخي، وسيستمر العداء أبداً». سئم الناس هُنا تقليب المواجع واستذكار الجرائم التركية، قديمها وحديثها، وصولاً إلى المشاركة التركية السافرة في الحرب السورية، عبر فصائل تتبع لها بشكل مباشر. ولكن هذا الجدار مثّل إحدى أصعب الجرائم التركية الجاثمة على صدور أهالي المنطقة. وبحسب ذكر مصادر ميدانية، فإن الجيش السوري المتمركز في نقاط مواجهة لمراكز «الجندرمة» التركية، وجّه إنذارات متلاحقة بعد محاولة جرّافات تركية التوغل أكثر في عمق الأراضي السورية، بحجة بناء الجدار، ما أفضى إلى إجبارها على الانسحاب الفوري باتجاه الحدود. الجدار الخرساني الذي تعلوه الأسلاك الشائكة، تم تزويده بأبراج مراقبة يصل ارتفاعها إلى 15 متراً، وبأنظمة مراقبة عالية الدقة من كاميرات حرارية ورادارات رصد بري، بحجة حماية الأراضي التركية من تسرب المهاجرين. ويعتبر الجدار انتهاكاً للأراضي السورية وخرقاً للمواثيق الدولية، لكونه تعدى واقتطع أراضي سورية من دون التشاور مع الحكومة السورية في شأنها.