منذ تأميم القطاع النفطيّ في شباط/فيفري 1971، صار ضمان استمرار دور المحروقات بوصفها مصدراً شبه وحيد لتمويل الاقتصاد، ومصدر إمداد طاقيّ وطنيّ على المدى البعيد، الإطار الأساسيّ للسياسة الطاقيّة الجزائريّة. لكنّ هذا السياق عرف، خلال العقدين الأخيرين، اضطرابات كبرى. *تساؤلات بخصوص حالة احتياطات البترول والغاز الطبيعيّ:
 بدأت التساؤلات عن وضعيّة احتياطيات البترول والغاز الطبيعيّ، المبنيّة على آراء الخبراء، في الظهور والقطع مع الرأي المُطمئن الذي كان سائداً حتى عام 2007/2008 والقائل بأنّها «وافرة» وهي «لا تقترب من النضوب». ما عدد السنوات التي ستبقى للجزائر خلالها احتياطات بتروليّة وغازيّة؟ هل يمكن ضمان مستقبل الجزائر الطاقيّ؟ هل سنكون قادرين على تجديد احتياطانا، وبأيّ معدّل؟
تحمل الاجابات عن هذه الأسئلة علامات خطر، فقد استهلكت الجزائر ثلثي احتياطاتها البتروليّة القابلة للاسترداد وأكثر من نصف احتياطاتها من الغاز الطبيعيّ. لكنّ فعاليّة جهد البحث هي نفسها موضع تساؤل، حيث لا تعوّض الجزائر إلّا جزءاً صغيراً من كميّات البترول والغاز التي تنتجها، فعلى كلّ ثلاثة براميل بترول تنتجها لا يُجدَّد إلا واحد فقط.
*مخاوف حول توازن العرض والطلب على المدى البعيد، وحول التحكيم بين السوق الوطنيّة والتصدير على المدى المتوسّط:
تطوّر الاستهلاك الوطنيّ للطاقة بمعدّل لم يسبق له مثيل، فمن المنتظر، حسب الأرقام الرسميّة، أن ينتقل الطلب المحليّ من 40 إلى أكثر من 80 مليون طن نفط «مكافئ» في أفق 2030. وفيما يشهد إنتاج البترول الخام والغاز الطبيعيّ اتجاهاً تنازليّاً مستمراً منذ ما يقارب العقد، حيث انخفض بين اثنين ونصف وواحد بالمئة بين عامي 2005 و2015، تحافظ مؤشرات استهلاك الطاقة على وتيرة تصاعديّة تزداد حدّة، منها مثلاً ارتفاع بـ14 بالمئة في القطاع الثالث، و8.7 بالمئة في السكن، و9.4 بالمئة في النقل خلال الفترة نفسها. هنا يتكرر تساؤل: هل تكفي طاقة إنتاج الغاز لضمان مستوى الارتباطات التعاقديّة المتوقعة للتصدير ولتغطية حاجات الاستهلاك الداخليّ؟
تطوّر الاستهلاك الوطنيّ للطاقة بمعدّل لم يسبق له مثيل


شكوك حول الأسواق الخارجيّة:
يوجد كثير من الشكوك المحيطة بالأسواق الطاقيّة الأوروبيّة والأميركيّة التي تبقى الأسواق التقليديّة للمصدّرين الجزائريّين، فهي تمثّل، على التوالي، ما نسبته 63 و29 بالمئة من جملة مبيعات المحروقات من ناحية الحجم، و56 و35 بالمئة من ناحية القيمة. وقد أغلقت ثورة الغاز الصخريّ السوق الأميركيّة في وجه المصدّرين الجزائريّين ابتداءً من 2009، وأدى انخفاض استهلاك الغاز في الاتحاد الأوروبيّ بصفة منتظمة وتحوّله إلى سوق أكثر تنافسيّة إلى تقييد حصّة السوق الجزائريّة تحت وقع الضغوط المتنامية من قبل الزبائن لخفض سعر الغاز والبترول وإعادة التفاوض حول العقود لجهة مرونتها، وكذلك لجهة السعر والكميّات. بذلك، صارت مسألة مردوديّة الغاز الطبيعيّ المسال على المحكّ.
على مستوى آخر، توجد نزعة لاستخدام البترول كسلاح جيوسياسيّ في حروب اقتصاديّة، ويشهد على ذلك الهجوم الذي شنّته السعوديّة بشراكة مع الولايات المتحدة، في صيف 2014، والذي أدى في غضون ستة أشهر إلى هبوط أسعار النفط الخام بأكثر من النصف.
تساؤلات عن وجاهة العلاقة بين البترول والتنمية:
نتيجة انهيار أسعار البترول في منتصف الثمانينيات، انقطع الترابط بين الخيارات الاستراتيجيّة الوطنيّة، ما أدى إلى تحلّل العلاقة بين المحروقات والتنمية وقطيعة في طريقة النظر إلى مكانة القطاع ودوره في اقتصاد البلاد. وتمثّلت السمة الأساسيّة المميّزة لهذا التحلّل في تقديم دعم لغايات غير إنتاجيّة، حيث لم يعد الدعم منذ نهاية الثمانينيات موجهاً نحو بناء القاعدة الإنتاجيّة للبلاد أو حشد قدراتها العلميّة والتقنيّة.
مشهد يدلّ على أزمة حوكمة القطاع الطاقيّ:
يوجد تغيير ملحوظ على رأس شركة البترول «سوناطراك» يشير إلى انعدام استقرار مزمن، فقد تداول في العقدين الأخيرين على رئاستها أحد عشر مديراً تنفيذيّاً، بينهم اثنان رحلا بتدابير جزائيّة، وثلاثة طُردوا طرداً غير رسميّ، وسبعة وزراء إشراف، كان أحدهم شكيب خليل، الذي صدرت في حقه مذكرة إيقاف دوليّة.
*انتهاء الإجماع وفقدان المعنى:
تعرّض «الإجماع الطاقيّ الوطنيّ» للاهتزاز، وظهرت أولى التمزقات ذات الأثر والدالة في بداية الألفية الجديدة مع مسوّدة مشروع المحروقات التي قدمها وزير الطاقة الأسبق شكيب خليل، والمحاولة المجهضة لوضع قطاع المحروقات وشركة «سوناطراك» في تناغم مع مبادئ الاقتصاد الرأسماليّ: التنافس، الانفتاح، والخصخصة.
صارت الطاقة موضوع نزاعات اجتماعيّة وسياسيّة، حيث أصبح سؤال مشروعيّة الخيارات الطاقيّة مطروحاً، ودخلت مسألة التقبّل الاجتماعيّ للقرارات الطاقيّة في النقاش العامّ، ولم تعد حجّة الفوائد الاقتصاديّة والاجتماعيّة التي تحدّدها الخيارات الرسميّة لمصلحة المجتمع محلّ إجماع.
*ملامح أزمة تُحتّم إعادة صياغة معادلة الطاقة الجزائريّة:
يتكوّن الاستهلاك الطاقيّ للجزائر على نحو شبه كليّ من الموارد الأحفوريّة، حيث تحتلّ الطاقات المتجددة (المائيّة، الهوائيّة، الشمسيّة، الجيوحراريّة، إلخ) مكانة ضئيلة ضمن الميزان الطاقيّ. حاليّاً، لا تتجاوز حصّة الطاقات المتجدّدة نسبة 0.02 بالمئة في الميزان الطاقيّ الوطنيّ و0.17 بالمئة في الإنتاج الكهربائيّ العالميّ.
تبقى المحروقات المصدر شبه الحصريّ لتمويل الاقتصاد الجزائريّ، ويبقى نظام الإنتاج المحليّ عاجزاً عن تلبية حاجات المستهلكين التي تغطيها على نحو شبه كامل الواردات المتنامية التي تُموّل هي نفسها بشكل كليّ من العوائد البتروليّة. وتؤشّر فرضيّة انهيار الأسعار على شدّة هشاشة هذه التوازنات الاقتصاديّة والطاقيّة.

التفكير في نموذج طاقي بديل يعني التفكير في التكامل الوطني


باختصار، يشير شبح التقهقر الاقتصاديّ والاجتماعيّ ومخاطره السياسيّة الكبرى إلى أفق هذا النموذج. وفي ظلّ انحرافاته المتعددة، يطرق موضوع التحوّل الطاقيّ أبوابها ويطرح موضوع توفير الطاقة، عقلنة الاستهلاك الطاقيّ، البحث عن مزيج طاقيّ جديد يضمن مكاناً للطاقات المتجددة والمحافظة على المحيط، خفض الاعتماد على البترول وتنويع الاقتصاد. لقد صار من الضروريّ إذاً الخروج من النموذج الحاليّ، ولكن كيف؟
نحن نواجه إشكاليّة غير مسبوقة، ذلك لأنّها تتطلب مقاربة جديدة لا يمكن أن تحقق تقدماً دون إحداث قطيعة ضروريّة للعمل على إحداث تناسق بين الخيارات الاستراتيجيّة للتنمية الوطنيّة والسياسة الطاقيّة والسياسة الاقتصاديّة، يبدو من الجليّ أنّه لا يمكن أن يتمّ إلّا على مدى بعيد.
ما السبيل للانخراط في أفق علميّ وتكنولوجيّ وصناعيّ وطنيّ؟ كيف يمكن دفع تداعياته المحليّة إلى أقصاها في ما يتعلّق بالتنمية الاقتصاديّة والتجديد العلميّ والتكنولوجيّ والشغل؟ في الواقع، لا يمكن استيراد نموذج تحوّل طاقيّ جاهز.
التفكير في نموذج طاقيّ بديل يعني ضرورةً التفكيرَ في التكامل الوطنيّ الضروريّ في تطوير هذا النموذج. ويمثّل نقل التكنولوجيا، تطوير العمالة ــ ولا سيما الماهرة ــ التصنيع، تحديات أساسيّة في التحوّل الطاقيّ. في المحصّلة، تقع إشكاليّة الانتقال الطاقيّ في مفترق تحديات طاقيّة واقتصاديّة وسياسيّة وجيوسياسيّة متعددة.
البرنامج الأوليّ لتطوير الطاقات المتجددة تبنته الحكومة في شباط/فيفري 2011، ويضع تحدياً لإنتاج طاقة متجددة بحجم 22 ألف ميغاوات في أفق 2030، من ضمنها 10 ألاف ميغاوات للتصدير المحتمل. وجرت مراجعة البرنامج برمّته في أيار/ماي 2015، وذلك خاصّة بعد انخفاض أسعار أنظمة «الطاقة الكهروضوئية» وطاقة الرياح.
التغيير الرئيسيّ تمثّل في الاستغناء عن الطاقة الشمسيّة الحراريّة، العالية التكلفة، لمصلحة «الطاقة الكهروضوئية» وطاقة الرياح اللتين تملكان نصيب الأسد بأكثر من 18 ألف ميغاوات، أي ما يقارب 85 بالمئة من جملة 22 ألف ميغاوات. التغيير الآخر حمل تنويعاً أكبر للبرنامج من خلال ثلاثة أنظمة جديدة ما زالت تختمر: الكُتل الأحيائيّة، التوليد المزدوج للطاقة، والحرارة الجوفيّة.
وبعد أكثر من ستة أعوام من إطلاقه، لم يتحقّق من البرنامج سوى 2 بالمئة، ما يعني تأخراً هائلاً في الإنجاز. في واقع الأمر، لا تمثّل الطاقات المتجدّدة إلا جزءاً صغيراً جداً، قرابة 3.3 بالمئة، من المزيج الطاقيّ المستقبليّ في الجزائر الذي ستبقى الهيمنة فيه للمحروقات لفترة طويلة بما يقارب 97 بالمئة، وربما أكثر من 98 بالمئة في عام 2030. وإذا ما انتهى الأمر باحتلال الطاقات المتجدّدة مكانة مهمّة في المزيج الطاقيّ الجزائريّ، فلن يكون ذلك قبل فترة طويلة جداً.
* اقتصادي جزائري وخبير في الطاقة