على وقع استكمال مخطط تهويد القدس وفلسطين، الحقيقة التي ينبغي أن تبقى حاضرة في كل وقت، بل والتذكير بها مراراً، هي أن الاعتراف الأميركي بالقدس عاصمة لإسرائيل، وترجمته بخطوة نقل السفارة إليها، ما كان ليتحقق لولا الخذلان العربي للقضية والشعب الفلسطينيين. وما كانت الولايات المتحدة لتبادر إليها بهذه الوقاحة التي نشهدها لولا أنها اطمأنت إلى ردة فعل الأنظمة والقوى التي اعتمدت خيار شرعنة الاحتلال الصهيوني لفلسطين، ومحاولة تحويله إلى كيان طبيعي في المنطقة، تمهيداً للانتقال إلى مرحلة التحالف الاستراتيجي العلني معه. ولمن يسأل عن موقف الشعب الفلسطيني الذي قال وسيقول كلمته، فليتم رفع الحصار المضروب عليه في الضفة والقطاع، الذي يهدف إلى منعه من أسباب القوة التي تمكّنه من الدفاع عن نفسه وعن قضيته، وسيشهدون ما يجيب عن كل تساؤلاتهم ببلاغة قل نظيرها، وسترى تل أبيب أيضاً ما يهز أركانها. ومع ذلك، فإن هذا الطوق لا ولن يعفي أحداً من مسؤولياته، بل يمكن أن يتحول إلى عامل ملهم لمزيد من الإبداع الفلسطيني في مواجهة الاحتلال والمخطط الأميركي في المنطقة.بعيداً عن الاستغراق في السياقات الداخلية الأميركية التي ساهمت في بلورة موقف الرئيس دونالد ترامب بخصوص مدينة القدس، تبقى الحقيقة الأشد وضوحاً، هي أن ما جرى ويجري ليس إلا تنفيذاً لمخطط «صفقة القرن» الذي يؤدي فيه النظام السعودي الدور الأهم في تهيئة ظروف ترجمته على أرض الواقع في الساحتين الإقليمية والفلسطينية. من هنا، فإن الدلالة الأهم للمشاهد الاحتفالية الإسرائيلية في القدس، لا تتصل فقط بمناسبة نقل السفارة الأميركية إليها، بل بما تحمله هذه الخطوة من رسائل كاشفة عن مستوى الانحدار الذي بلغه العديد من الأنظمة العربية، ومعها قوى سياسية وثقافية، تواكب هذا المسار بمحاولات تأصيل نظري تهدف إلى تقديمه كما لو أنه خيار «نضالي» لمواجهة التحديات التي تمر بها المنطقة. ومن أبرز تجليات هذا الانحطاط الذي بلغه النظام الرسمي العربي (النظام السعودي نموذجاً) أنه لم يعد يطالب بمقايضة الانخراط في مواجهة إيران وسائر محور المقاومة بتنازل إسرائيلي ما في المسار الفلسطيني، وبما يحفظ لهم قدراً من الاعتبار أمام شعوبهم. بل يواكب هذا الانخراط المجاني لحماية الأمن القومي الإسرائيلي، تصعيد إسرائيلي أميركي ضد الشعب الفلسطيني وقضيته، بلغ مرحلة الذروة مع اعتراف ترامب بالقدس عاصمة لإسرائيل، ونقل السفارة إليها، من دون أي اعتبار يُذكر «لأنظمة شرعنة الاحتلال الصهيوني لفلسطين» في العالم العربي. ولم يقتصر الأمر عند هذا الحد، بل إن حكام السعودية يهددون الفلسطينيين وقيادتهم بدفع أثمان مؤلمة إذا لم يقبلوا بمخطط «صفقة القرن». والأمر نفسه ينسحب على عدم اكتراث الإدارة الأميركية بالسلطة الفلسطينية التي لم تترك وسيلة للتقرب من الإدارة الأميركية، على أمل أن تقابلها بما يحفظ ماء وجهها وتقدمه أمام شعبها كثمرة للانخراط في خيار التسوية. مع كل ذلك، يمكن لهذه المحطة، وما سبقها من إعلان على لسان الرئيس الأميركي، أن تشكل نقطة تحول في حركة الصراع على أرض فلسطين، من دون إغفال حجم التحديات التي يواجهها الشعب الفلسطيني ومقاومته.
على خط مواز، تواكب إسرائيل هذا المسار أيضاً بمواقف سياسية وردعية، واستفزازية يقوم بها المستوطنون، وباستعداد أمني واسع، لمواجهة الحراك الشعبي الفلسطيني المقاوم.
على المستوى السياسي، استقبل نتنياهو الوفد الأميركي الذي سيشارك في احتفال نقل السفارة الأميركية إلى القدس، وعلى رأسه ابنة الرئيس، إيفانكا، وزوجها جاريد كوشنر، بالاضافة إلى وزير الخزانة ستيفن ميونشين، والذي سيشارك فيه أيضاً عشرات السفراء من دول مختلفة. وتوجّه نتنياهو إلى الوفد الأميركي بالقول إنه «لا يوجد مؤيدون لإسرائيل أكثر منكم على وجه الكرة الأرضية». ووصف الرئيس الأميركي بأنه يصنع التاريخ. وكما هو معتاد، كان لا بد لمفردة السلام من أن ترد على لسان نتنياهو في هذه المناسبة، مشدداً على ضرورة مواجهة أعداء السلام، المتمثل بإيران. واستغل المناسبة للإضاءة على موقف الرئيس الأميركي بالخروج من الاتفاق النووي مع إيران، بالقول إننا «نحن في الشرق الأوسط، والقدس والرياض، رأينا النتائج التدميرية للاتفاق» وأثنى على قرار ترامب بالخروج منه، مؤكداً أنه «فعل أمراً جيداً للمنطقة، والولايات المتحدة والعالم».
في المقابل، اختار ليبرمان التأكيد على أن إسرائيل تعرف أنها ستدفع ثمناً نتيجة نقل السفارة الأميركية الى القدس، وهي مستعدة لذلك. ويعبّر هذا الموقف، في جانب منه، عن تقدير موضوعي لمجريات الأحداث المتوقعة في الداخل الفلسطيني. لكنه، ينطوي أيضاً، بلحاظ مجموعة من المواقف والإجراءات الأخرى، على تقدير بأن هذه الأثمان يمكن لإسرائيل أن تتحملها، وتستأهل التضحية بها مقابل خطوة بحجم الاعتراف الأميركي بالقدس ونقل السفارة إليها. مع ذلك، يهدف هذا الموقف العلني إلى محاولة تيئيس الطرف الفلسطيني عبر الإيحاء له بأن كل ردود فعله لن تثني إسرائيل والولايات المتحدة عن هذا الخيار. وبالتالي، فهو سيدفع أثماناً من دون نتائج مجدية على هذا الصعيد.
لم تكتف إسرائيل بمشاهد الاحتفال الرسمي، بل حرصت على أن تواكبها احتفالات من نوع آخر تمثّلت باقتحام مئات المستوطنين المسجد الأقصى، لفتت تقارير إعلامية الى أنه الاقتحام الأكبر منذ عقود. ورفع المستوطنون علم الاحتلال عند بوابات الحرم القدسي. يأتي ذلك في موازاة تعزيزات عسكرية واسعة قامت بها قوات الاحتلال في القدس، استعداداً لافتتاح السفارة الأميركية في المدينة.