عمان | من «إيلات»، أم الرشراش، في فلسطين المحتلة، سُمع صوت الانفجار، ونُشرَت صور وتسجيلات فيديو قصيرة لأعمدة الدخان على مواقع التواصل الاجتماعي، فيما كان للإسرائيليين روايتهم «الخيالية» عن «صواريخ إرهابية» انطلقت من سيناء وسقطت في خليج العقبة، وهو أمر على قلّة صدقيته أثار تساؤلات عدة، في ظل تلكؤ الجهات الرسمية الأردنية عن بيان حقيقة ما حدث في العقبة قبل أيام، وحجم الخسائر التي بدأت بحالات اختناق، ليتبين في وقت لاحق سقوط قتلى!بدأت القصة برصد انفجار في المدينة الخاضعة لما تسمى «سلطة منطقة العقبة الاقتصادية الخاصة»، والأخيرة مرتبطة مباشرة برئاسة الوزراء. وبينما قلَّلت المعلومات الأولية من آثار الحادث، أعلن بصورة متتابعة في الأيام اللاحقة سقوط ضحايا مع تكتّم على التفاصيل، ومنعٍ من الاقتراب من مكان الحادث بطبيعة الحال.
سلطة العقبة هي التي حرّكت ملف القضية إلى المدعي العام، ثم لاذت بالصمت استجابة لطلب منه أرسل إلى الأجهزة الرسمية كافة بمنع نشر أي بيان إعلامي في أي وسيلة إلى حين الانتهاء من التحقيق. بعد ذلك، خلصت نتائج التحقيق إلى أن الحادث «نجم عن انفجار غباري ناتج من توافر شرارة خلال عملية قص الحديد أو تفريغ الكهرباء الساكنة أو وجود أي مصدر اشتعال آخر»، ثم تأكد خلال الاستماع للشهود والخبراء والمقاولين العاملين في الموقع وجود تقصير من مؤسسة المقاولات الفرعية التي كُلِّفَت العمل على اتخاذ وسائل السلامة العامة المطلوب توفيرها بموجب العقود الموقعة بينها وبين المقاول الرئيسي.
الحصيلة النهائية كانت خمس وفيات، وخمس إصابات غادر منهم ثلاثة مستشفى الأمير هاشم في العقبة، فيما حُوّل الاثنان الباقيان إلى «مدينة الحسين الطبية» في العاصمة عمّان لاستكمال العلاج. مع هذا، أكد بيان سلطة العقبة أنها تعمل على متابعة حقوق العمال المتوفين والمصابين مع المدعي العام للعقبة والجهات الأخرى المعنية، وفعلاً تقدم المقاول الفرعي (مؤسسة أبو غريب التجارية) رسمياً بطلب إعطائه مهلة للسير بإجراءات المصالحة مع ذوي المتوفين والمصابين.
لكن إسناد جرم التسبب في الوفاة وبالإيذاء إلى المقاول الفرعي مثّل إخلاءً لمسؤولية المقاول الرئيسي المحال عليه العطاء في أعمال هدم وإزالة مرافق الميناء. وبالرجوع إلى دائرة مراقبة الشركاء، تبين أن المقاول الرئيسي هو «الشركة العربية الدولية للإنشاءات والمقاولات» المملوكة بالكامل للقوات المسلحة الأردنية، والمسجلة في وزارة الصناعة والتجارة كـ«شركة ذات مسؤولية محدودة» يترأس هيئة المديرين فيها رئيس هيئة التخطيط الاستراتيجي والموارد الدفاعية في الجيش.
تواصلنا مع المهندس عيسى حدادين، وهو أحد مالكي شركات المقاولات الأردنية، وكان قد رفض قبل مدة المشاركة في مشروع مختص بحفر خط الغاز تنفيذاً لصفقة الغاز مع إسرائيل، فقال إن مثل هذه الأعمال المتعلقة بإزالة الصوامع «أمر فريد من نوعه في الأردن، وقد ينقص الشركة المنفذة الخبرة الكافية للمخاطر المتصلة بتنفيذ المشروع». حدادين ذكر أن هناك «مشكلة في مسألة ثقافة السلامة العامة لدى الشركات التي تريد توفير عوامل سلامة بأقل الكلف، أو لدى بعض العمال غير الملتزمين الملابس والإجراءات الخاصة بسلامتهم». أما شركات التأمين، فلديها مخرجها القانوني الذي تستطيع النفاذ من التعويضات عبره، وهو عدم تقيد شركة المقاولات أو العاملين بشروط السلامة، وهذا ما ستكشفه التحقيقات، وفق المهندس.
كذلك، أشار حدادين إلى مخالفة دستورية متعلقة بإحالة العطاء على شركة تمتلكها القوات المسلحة، لأن الدستور ينص في مادته 127 على أن «مهمة الجيش تنحصر في الدفاع عن الوطن وسلامته، وبذلك لا يحق له امتلاك شركات لمزاولة أعمال تجارية... يحق له فقط امتلاك سلاح الهندسة الخاص به لتنفيذ مهمات دفاعية أو قتالية خاصة». وقال: «شركة الجيش هذه تتقدم لتنفيذ المشاريع مثلها مثل أي شركة مقاولات خاصة لها سجل تجاري ومصنفة، وهي تحقق أرباحاً تعود إلى الجيش، منها مكافآت للضباط المهندسين بالتأكيد، لكنها تعمل بظروف منافسة غير عادلة مع الشركات الخاصة، وذلك لتمتعها بامتيازات تخفض كلفها عن القطاع الخاص».
اللافت أن هذه الشركة لا تنفذ العطاءات التي تفوز بها بنفسها، بل تحيلها على شركات صغيرة مملوكة في الغالب للمتقاعدين من الجيش يتمتعون بميزات شركة الجيش تلقائياً، وهنا تكمن المشكلة إذ إن المنافسة غير العادلة تسمح في هذه الظروف بالسيطرة على عملية تلزيم المشاريع لشركات وفق رغبة أشخاص أو جهات، خارج قانون العطاءات الحكومية.
يذكر أن مدينة العقبة موعودة بمشاريع بمليارات الدولارات ضمن مشروع السعودية الأضخم، مدينة «نيوم»، وكان الترويج أخيراً للعقبة يسير إلى استقطاب الاستثمارات، ولا سيما مع تمتع المدينة بموقع استراتيجي بين قطبي «عملية السلام» الجديدة في المنطقة: السعودية شرقاً وإسرائيل غرباً. وقد انتُقِل إلى ميناء العقبة الجديد في بداية أيار الحالي، على أن يُسلَّم الميناء القديم لـ«المعبر» الإماراتية وفق شروط التسليم، وذلك لتنفيذ المرحلة الثالثة من «مرسى زايد».