سطّر فلسطينيو قطاع غزة ملحمة أسطورية جسدوا بها أعلى درجات الشجاعة وبذل الدماء في مواجهة الاحتلال الإسرائيلي. بعيداً عن السياقات السياسية والأمنية لسقوط الشهداء والجرحى، انطوت مسيرات الفداء على رسائل مدوية تتصل بمستقبل قضية فلسطين، وتمثل مؤشراً صارخاً على خيارات الشعب الفلسطيني في مواجهة الهجمة الأميركية والتخاذل العربي والخليجي (السعودي) والبطش الإسرائيلي. فرغم كل محاولات الإحباط والخطوات العدوانية السياسية والأمنية والمعنوية، والطوق الخانق المضروب حول عنق الشعب الفلسطيني ومساومته على لقمة العيش وحبة الدواء مقابل التخلي عن خياراته ومواقفه وثوابته، أتت «مسيرات العودة» التي واجهت باللحم الحيّ قناصات جيش العدو وقذائفه ورشاشاته.من كان ينتظر كلمة الشعب الفلسطيني وموقفه من المخطط الأميركي ونقل السفارة الأميركية إلى القدس، فقد عبّر عنها بلغة الدماء والتضحية، بل أكد استعداده لتقديم المزيد من التضحيات في مواجهة أي مخطط يستهدف تصفية القضية الفلسطينية. تظهر هذه الدماء أن الشعب الفلسطيني لن يسلِّم بمساعي فرض الوقائع التي اعتمدتها إسرائيل منذ أكثر من سبعين عاماً، مشددة بما لا لبس فيه على أن نجاح عملية نقل السفارة تقنياً ومادياً لا يعني أن الشعب الفلسطيني سيسلِّم بهذا الواقع، بل ستبقى ذكرى نقل السفارة مقرونة بالدماء التي سالت على حدود قطاع غزة.
أكد الشعب الفلسطيني، بما لا لبس فيه، أنه يقف بالمرصاد لمخطط «صفقة القرن»، التي يشكل نقل السفارة الأميركية إلى القدس، وقبلها الاعتراف الأميركي بالقدس «عاصمة لإسرائيل»، محطة تمهيدية في سياق تنفيذها على أرض الواقع. وما يضفي مزيداً من الأهمية على موقف الشعب الفلسطيني الذي تصدت غزة للتعبير عنه، باسم كل فلسطين، هو الإصرار الأميركي ــ السعودي على المضيّ في هذا المخطط، من دون الالتفات إلى موقف الشعب الفلسطيني وفصائله المقاومة وحتى السلطة.
من هنا، سيكون لهذه الدماء التي ارتوت بها أرض فلسطين حضورها القوي في واشنطن والرياض وتل أبيب كمعطى كاشف عن آفاق هذا المخطط، وقدرته على تحقيق أهدافه المؤملة أميركياً وإسرائيلياً، خاصة أن الحضور الشعبي على حدود القطاع كشف عن استمرار تمسك الأجيال المتعاقبة بحق العودة، بل الذهاب إلى أعلى درجات التضحية، رغم مرور سبعين عاماً على النكبة. والأهم أن الحراك الشعبي الفلسطيني والمقاوم يكشف بوضوح أن منسوب الأمل بالتحرير لا يزال حياً في النفوس، بل رغم الأسوار والجدر المفروضة التي تطوقه من جميع الجهات، فإن اليقين بالتحرير ما زال هو الحاكم والمحرك والمحفز، الأمر الذي يحاولون أن يقتلوه بمختلف وسائلهم الإعلامية والسياسية والنفسية. مع ذلك، ينبغي تسجيل حقيقة أن التجاوب الشعبي الفلسطيني، بالدرجة الأولى، في ما بقي من فلسطين خارج القطاع، لم يكن بالمستوى المؤمَّل، لا في الضفة المحتلة ولا مناطق 48، ولا في الأردن ولا بقية المناطق.
في المقابل، المؤكد أن من أهم نتائج استمرار المقاومة والانتفاضة الشعبية دورها الاستنهاضي الذي سيُسهم في إعادة تصويب البوصلة، بل إن أداء الثلاثي، واشنطن والرياض وتل أبيب، الاستفزازي سيُسهم أيضاً في تقريب لحظة الانفجار الشعبي الفلسطيني الواسع والشامل. وفي كل الأحوال، ما جرى على حدود غزة لم يكن إلا جولة في سياق صراع متواصل، ويُعزِّز الثقة بأن الشعب الفلسطيني قادر على التكيف مع كل الظروف، وعلى تجاوز كل الصعاب، وأنه سيواصل إبداع وسائله النضالية بما يتلاءم مع متطلبات المعركة المستمرة في مكانها وظروفها وأولوياتها.