يُرفع أذان المغرب لليوم العاشر من رمضان وأم سعيد العودة تنتظر على عتبات بيتها الحالي في جديدة عرطوز عودة أبنائها. سنوات طويلة انقضت، حزمت في خلالها أغراضها مرّاتٍ كثيرة، لم يغادر جهاز التحكم في التلفاز يدها طوال تلك السنين، وهي تتابع القنوات الإخبارية في انتظار خبرٍ يقينٍ عن مخيم اليرموك. كانت ترفض الإصغاء إلى أي حديث عن الدمار الذي طاول المخيم، هي لا تزال تراه بعينها الأولى. بجمل قليلة توجز أم سعيد لـ«الأخبار» حكاية «عشرة عمر» مع المخيّم. تقول «عشت فيه خمسين عاماً تقريباً، بنيت منزلي غرفة غرفة على أمل العودة الى فلسطين. انقضت السنون والمخيم أصبح وطني الجديد. اعتدت رائحته وكل تفاصيله». تصمت لحظات، وتضيف «أبنائي يئسوا من العودة إلى منازلهم في المخيم، بعد أن تعبوا من الإيجارات، فقرروا بيع منزلين من منازلنا والإبقاء على منزل واحد فقط». عائد الى المخيم
يقف أبو جواد ترعاني (سوري ــ فلسطيني) عند المدخل الرئيس للمخيم (دوار البطيخة) في انتظار أن تقله سيارة عابرة إلى داخله. من بعيد تلوح محكمة اليرموك والعلم السوري يرفرف فوقها. لأكثر من ثلاثة أعوام كان المرور بهذه المنطقة يعني موتاً محققاً، نظراً إلى انتشار القناصة على جانبي الجبهة (وفقاً لتعبير أبو جواد). لم يخرج الرجل من المخيم مع دفعات الناس التي خرجت عام 2012. يقول «وُلدت في المخيم ولم أكن أنوي الخروج منه إلا إلى واحدٍ من مكانين: القبر أو فلسطين. وبما أن فلسطين (ظلّت) بعيدة، فالقبر في المخيم هو الخيار المتبقي». يشرح أبو جواد بعض تفاصيل ما عاشه: «في البداية كنت أقتصد مع زوجتي في استهلاك الطعام الموجود في المنزل. بعد شهرين نفد مخزوننا من السكر والشاي والملح، خاصة أن بعض الجيران كانوا يستلفون منّا طعامهم، ولم نكن نظنّ حينها أنّ الحصار سيطول». بعد فترة وجد الرجل نفسه «مضطرّاً» للدخول إلى أحد منازل جيرانه الفارغة. «صرت آخذ المواد الغذائية الموجودة في منزلهم. في أول مرة طبخنا شيئاً من منزل الجيران، بقي الطعام يوماً كاملاً ولم يلمسه أحد منّا. هو لم يكن من حقنا، لكنّ الجوع كافرٌ ولا يرحم». يؤكّد الرجل أنّه حرص وقتها على الاتصال بالجيران، واستئذانهم في أخذ ما يحويه بيتهم من طعام. بمرور الوقت «صارت الاتصالات مكلفة جداً، فلم أعد أتصل بأحد. كنت أدخل منازل جيراني المقرّبين وآخذ الطعام والمازوت والغاز إن وجد». يشرد لحظات، ويضيف «وصلت أسعار السلع الغذائية حدوداً فوق طاقتنا.
خرج الرجل الذي زوّجوني إيّاه مع المسلّحين نحو الشمال لكنّه اصطحب معه ابني البكر

باعت زوجتي مصاغها وبعت أغراض منزلنا كي نحصل على الطعام. مرّة قايضنا خاتم ذهب بكيلو من الأرز». يضحك ضحكة بائسة وينفث الدخان من سيجارته «حتى الدخّان تركتو بوقتها، وصل سعر السيجارة إلى 35 ألف ليرة». في عام 2016 ساءت أحوال زوجته الصحيّة، «اضطررنا إلى الخروج عبر (بلدة) يلدا، بعد أن دفعنا مبلغ مئة ألف ليرة عن كل واحد منّا. وها أنا اليوم أتلمس طريق عودتي الجديد».
أرملة في كنف «الخلافة»
ولدت مريم (فضلت عدم ذكر اسمها الكامل) في حي القدم، عاشت وتزوجت هناك. في عام 2013 خرج زوجها من منزله ولم يعد. رفض أهلها بقاءها وحيدة مع أطفالها في «القدم»، وقرروا أن تعيش معهم. لم تستطع التأقلم مع حياة التنقل ما بين منازل الإخوة، فاصطحبت أطفالها وعادت إلى بيتها في القدم. ومع احتدام المعارك هناك (عام 2014) وجدت نفسها مضطرة للانتقال الى المخيم. تقول «كانت خالتي تسكن مخيم اليرموك بالقرب من شارع لوبية، لكنّها غادرت حين ساءت الظروف. قررت البحث عن منزلها والسكن فيه. اهتديت إليه، لكنه كان متضرراً جداً، فسكنتُ منزلاً خالياً يجاور منزلها». تضيف السيدة الأربعينيّة «اعتنيت بالمنزل كأنه منزلي. اشتغلت في بيع البسكوت والحلوى للأطفال بعد أن بعت مصاغي وتدبرت ثمن البضاعة». لكنّ تحايل مريم على ظروفها بغية إيجاد الحلول المناسبة لم يُفدها طويلاً، فسرعان ما أُجبرت على الزواج! تقول «وجودي بلا رجل لم يرق عناصر داعش. قالت فتواهم إنّ غياب زوجي عامين كاملين عنّي يعني أنني في حكم الأرملة، وفرضوا عليّ الزواج من أحد مقاتليهم عام 2015». كان للسيدة ثلاثة أولاد من زواجها الأوّل: صبيّان وفتاة، قبل أن تضاف إليهم طفلة من زوجها «الداعشي». تقول «عندي ورقة كُتب عليها عقد زواجنا، لكنها لا تحمل أيّ معلومات تفصيلية عن زوجي كي أسجل ابنتي اعتماداً عليها». الفصل الأسوأ من قصة السيدة جاء في الخواتيم، إذ «خرج الرجل الذي زوّجوني إيّاه مع المسلّحين الخارجين نحو الشمال، لكنّه اصطحب معه ابني البكر (12 عاماً). لم أعلم بذلك إلا بعد ساعاتٍ من خروجهم. أريد ابني، فالرجل ليس والده الحقيقي، ولا أعرف كي سأعيده إلى حضني». أخيراً، انتقلت مريم إلى منطقة الزاهرة. خلعت عنها «ثياب داعش» التي فرضت عليها، لكنّ أحداً من الجيران لا يعرف كيف كانت تعيش في ما مضى، ولا تريد لأحد أن يعلم خوفاً من أيّ ردّ فعل غير محسوب.
«العودة المستحيلة»؟
«وُلد» مخيم اليرموك في منتصف خمسينيّات القرن الماضي على بُعد ثمانية كيلومترات عن مركز العاصمة. لم تُصنّفه «وكالة الأمم المتحدة لإغاثة وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين/ أونروا» بوصفه «مخيّماً رسميّاً»، رغم ذلك فقد اصطُلح على تسمية المخيّم بـ«عاصمة الشتات الفلسطيني». في عام 2009 قُدّر عدد سكان المخيم بحوالى 360 ألف نسمة يعيشون فوق مساحة تمتد 2.11 كلم مربع. حطّت الحرب رحالها في المخيم أواخر عام 2012، وتشير بعض التقديرات غير الرسميّة إلى أنّ عدد سكان المخيم في عام 2013 قاربَ المليون. في الأسبوع الماضي أعلنت الأمم المتحدة أن «حجم الدمار فى مخيم اليرموك يجعل عودة سكانه أمراً صعباً للغاية». وقال المتحدث باسم «الأونروا»، كريس جانيس، إنّ «اليرموك اليوم غارق في الدمار. تقريباً لم يسلم أي منزل. منظومة الصحة العامة، المياه، الكهرباء والخدمات الأساسية كلها تضررت بشكل كبير».