لم يُقطع نزاع القوم بعد. يزداد الشرخ اتّساعاً بين «إخوة الجهاد». جميع محاولات الوساطة باءت بالفشل، فاستحالت الحربُ الباردة بين «جبهة النصرة» و«الدولة الإسلامية في العراق والشام» صراعاً دموياً على إمارة أرض الشام وبلاد الرافدين. لم تعد تنفع محاولات الترقيع للملمة الصف الجهادي، التي يقوم بها «الأمير أبو محمد الجولاني» بين الحين والآخر. هكذا بدأت حربٌ شرعية بين «النصرة» و«الدولة»، سلاحها رجال دين يُفتون بترك تنظيم والالتحاق بآخر. هكذا استمرّ المُسّرِب المجهول بنشر ما سماه «أسرار دولة البغدادي».
بدأ الحراك على مستوى القيادات. اجتمع القياديان عمر الشيشاني وصلاح الدين الشيشاني، والسعوديان أبو عزام النجدي وعبد الوهاب الصقعوب. اتفق هؤلاء على ترك دولة البغدادي بناءً على فتاوى بعض الشيوخ، لكن عمر الشيشاني واسمه الحقيقي طرخان باترشفيلي شعر بالحرج الشديد لكونه استشار جميع المؤثرين في قواته فأبدوا رفضهم. أسرّ عمر الشيشاني إلى زميله صلاح بأنّه في خطر إذا لم يعلن المبايعة. وأرسل إلى العقيد حجي بكر يُخبره أنّه في حال إعلان بيعته للبغدادي، سينسحب نصف «جيشه» (جيش المهاجرين) وهو قرابة ١٦٥٠ مقاتلاً، لكنّ العقيد حجي بكر أصرّ على الإعلان. ثم أبلغ صلاح الشيشاني ومن معه أنهم إن أعلنوا انشقاقهم فسيجعل منهم خوارج، حكمهم القتل. تحت هذه الضغوط، أعلن عمر الشيشاني مبايعة البغدادي رسمياً. وانشقّ بصمت صلاح الشيشاني الذي انسحب معه ٨٠٠ مقاتل. فوجئ العقيد حجي بكر بحجم الانشقاق، فأرسل العقيد إلى صلاح الشيشاني يُهدّده بوجوب التزام الصمت وعدم إعلان الانشقاق في الإعلام وإلا فسيُهدر دمه شخصياً. وبالفعل، التزم صلاح الشيشاني الصمت، لكنّه أطلق على مجموعته اسم «جيش المهاجرين». وقع انسحاب الشيشاني ومجموعته جاء مدوّياً. ولاحتواء الكارثة، أرسل العقيد حجي بكر يُشير على «أبو بكر القحطاني» وأبو علي ابراهيم السلطان وعثمان نازح والعراقي أبو علي الأنباري بالاحتفاء عبر الإعلام ببيعة عمر الشيشاني والاجتماع بالقياديين والشرعيين المنشقين، وتحذيرهم من أنّ أي شخص يعلن عبر الانترنت انسحابه سيُعرّض نفسه للقتل، لكونه خرج عن الطاعة. هكذا أُقيمت حملة دعائية لبيعة عمر الشيشاني، فيما جرى السكوت بالكامل عن اكبر انسحاب في تاريخ دولة البغدادي، أي انشقاق ٨٠٠ مقاتل دفعة واحدة. لم ينته الأمر عند هذا الحد، إذ انشق عشرات الجنود عن دولة البغدادي ملتحقين بالقيادي صلاح الشيشاني. حاول كل من البغدادي والعقيد وأبو علي الانباري وأبو الأثير تدارك الانشقاقات الجديدة، فاقتُرح سحب جميع الجوازات من جميع المهاجرين للحؤول دون هربهم، كما اقترح العقيد تجنيد جواسيس لإبلاغهم عن كل شخص ينوي الانشقاق لاتّخاذ اللازم. وافق الجميع على هذا المقترح، فاقتُرح تكثيف زيارات المفتين الشرعيين وتحذير الجنود من الخروج عن طاعة ولي الأمر وتخويفهم بالنار والقتل.

من «الدولة» إلى «الخلافة»

في تلك الأثناء، انتشرت أخبار تُفيد باحتمال تأسيس «الجبهة الاسلامية». وصلت الأخبار إلى مسامع العقيد والبغدادي، اللذين استبقا الأمر بغرس جواسيس في الكتائب التي تتخوّف منها دولة البغدادي. حرص العقيد على اختراق «حركة أحرار الشام» باعتبارها «الرقم الصعب» والمجموعة الأكثر تأثيراً على مشروع البغدادي التوسعي (لكونها سلفية). لذلك زرع عدة جواسيس فيها، لكنّهم لم يستطيعوا الوصول الى القيادة في البداية. وبعد ذلك، تمكن العقيد من اختراق «أحرار الشام» بواسطة قائد لواء تابع لأحرار الشام. هذا القائد كان يزوّد العقيد بمراكز القوة والضعف لدى الأحرار. وكانت التسريبة الأخطر التي أوصلها العقيد فكرة اتحاد «أحرار الشام» مع بقية المجموعات الأخرى مثل «لواء الإسلام» و«لواء التوحيد» و«صقور الشام». إزاء ذلك، عُقد اجتماعٌ عاجل اتُّفق فيه على مخطط قوامه مساران. الأول حملة إعلامية لإحباط مشروع الاتحاد بوصفه مشروع صحوات وعملاء واستخبارات وتفكيكهم بعد تشويههم. أما المسار الثاني، فيقوم على تضخيم حجم الدولة إلى مشروع خلافة. تلك كانت فكرة والي حلب القيادي عمرو العبسي، المعروف بـ«أبو الأثير الشامي»، الذي كان سجيناً في سجن صيدنايا بجرم الانتماء إلى مجموعة إرهابية. وتجدر الإشارة إلى أن شقيق أبو الأثير، فراس العبسي كان أول قيادي إسلامي يُطلق على جماعته اسم دولة في سوريا، حيث سُمّيت «مجلس شورى دولة الاسلام»، علماً أنه قُتل عند معبر باب الهوى بعد رفعه علم القاعدة على الحدود التركية في منطقة خاضعة لسيطرة كتائب الفاروق وحركة أحرار الشام. لذلك كان أبو الأثير يحمل حقداً دفينا على هذه الكتائب لكونه يراها سبباً في مقتل أخيه. فتولى إمارة «مجلس شورى دولة الاسلام»، حيث بدأ العمل على مشروعه ودولته ونجح في رفع العدد بعد مقتل أخيه من ١٨٠ الى ٥٤٠ مقاتلاً. ثم راسل البغدادي في العراق للتخطيط معه لإنشاء كيان عالمي موحد. لا يعرف كثيرون أن أول فرع للبغدادي في سوريا كان هذا التابع لأبي الأثير العبسي. في البداية، سعى العبسي إلى التواصل مع مشايخ سعوديين. وعلى الأثر، أنشأ لجنة بقيادة أحد إخوته للقاء شيوخ سعوديين لتأييد مشروعه. وأبرز المشايخ كانوا سليمان العلوان وعبد العزيز الطريفي وعبد الرحمن البراك وعبد الله الغنيمان وآخرين.
لاحقاً، قدم البغدادي إلى سوريا، فكان أبو الأثير من أوائل الشخصيات التي التقته وبايعته سراً ثم علناً فيما بعد. ولمّا أُعلن ما تُسمّى «الجبهة الاسلامية» من اتحاد كل من أحرار الشام وجيش الاسلام وصقور الشام ولواء التوحيد، شعر البغدادي والعقيد حجي وعمرو العبسي بالخطر. فاقتُرحت فكرة إعلان الخلافة عير توسيع التنظيم من «الدولة الإسلامية في العراق والشام» إلى الخلافة الاسلامية. اقترح عمرو العبسي أن يقوم البغدادي بطلب مبايعات للخلافة من افغانستان والشيشان واليمن وليبيا وتونس والمغرب والجزائر وسيناء. أرسل البغدادي إلى قائد القاعدة في اليمن ناصرالوحيشي، لكنه رفض الفكرة. وأرسل الى افغانستان، حيث رُفضت الفكرة أيضاً، كما رفضت الفكرة من المغرب، لكن وصلت الى البغدادي تسجيلات مرئية بالبيعة من جهاديين في سيناء وتونس وليبيا. وبذلك فشلت الفكرة فأعرضواعنها.

من قتل عبد القادر صالح؟

عيّن البغدادي عمرو العبسي المعروف بـ«أبو الأثير» والياً على حلب، لكنه كان يشعر بالقلق من «لواء التوحيد»، الذي يُمثل قوة كبيرة، إذ يصل تعداد «لواء التوحيد» إلى نحو عشرين ألفاً، أي إنها تضاهي دولة البغدادي بخمسة أضعاف. كان العبسي يشعر بأن لواء التوحيد عقبة كبيرة أمام تمدده، ولا سيما أن قائده عبد القادر صالح كان ذا جماهيرية كبيرة. هكذا قرّر العبسي التخلص من عبد القادر صالح كصحوي ومرتد، فأخطر البغدادي بذلك. لم يُذكر أي تفاصيل عن الطريقة، لكن لم يلبث أن أُعلن خبر مقتل عبد القادر صالح. كذلك عرض العبسي على البغدادي قائمة تصفيات لقادة من «الجبهة الاسلامية» و«الجيش الحر»، معلّلاً قتلهم بتفكيك الصحوات.

نهاية ظل البغدادي

في موازاة ذلك، قُتل العقيد حجي بكر في ظروف غامضة. اغتيل الرجل الأول والعقل المدبر في دولة البغدادي، لكن لم يُعرف غريمه. تكتم البغدادي على الخبر، ولدى خروجه إلى العلن سارع إلى نفيه. وفي تلك الأثناء، كان أبو الأثير قد أعطى أوامر بإعدام سجناء حلب قبل مغادرة رجال الدولة حلب، وبعدم ترك أحد حياً في السجون. تسارع الأحداث دفع أبو بكر البغدادي إلى التفكير في العودة إلى العراق خوفاً من المصير المجهول، لكن ثلاث شخصيات عراقية غيّرت رأيه. وهم العقيد حجي بكر قبل أن يُقتل، وأبو علي الأنباري. أما الثالث، فهو أبو أيمن العراقي، أحد الأمراء في دولة البغدادي. وهو والٍ على الساحل السوري من عشيرة البدور من الجنوب العراقي. وتُمثل الشخصيات الثلاث الهيكل القيادي في تنظيم البغدادي، لكن أخطرهم كان العقيد حجي الذي قتل. يأتي بعده أبو علي الأنباري، الذي يُمثّل عمقاً دينياً وتشريعياً للبغدادي، لكن غياب الرجل القوي ضعضع القيادة.
بعد ذلك، طلب الأنباري إحضار السعودي عثمان نازح كي يمرّ على جميع الجنود المهاجرين ويشرّع لهم قتال المرتدين والصحوات، علماً أن عثمان نازح شخصية ضعيفة بشهادة البغدادي وابوعلي الانباري لكونه لا يصلح للقيادة، بل يصلح لخداع السعوديين والتأثير فيهم. كل ذلك كان يزيد البغدادي قناعة بأن وجوده في سوريا خطأ فادح، لكن مجلسه كان يطرد فكرة عودته الى العراق دوماً.
بعد مقتل العقيد العراقي حجي بكر، صار يرافق البغدادي رجل صامت يُدعى أبو يحيى العراقي. حلّ الأخير محلّ العقيد، لكن أحد لم يفهم دوره في القيادة لكونه لم يكن يفارق البغدادي في أي مكان وبأي حال، لكن الترابط القوي بين ابو يحيى العراقي وابو علي الانباري، جعل المقربين يتحدثون ان ابويحيى العراقي صنيعة الانباري وجاسوس له.
لم تنته التسريبات على حساب «ويكي بغدادي» على موقع التويتر. وُضع تساؤل مفاده: «هل فكر البغدادي في التفجير خارج سوريا؟ وأين؟ وبموازاة سيطرة مقاتلي «الدولة الإسلامية في العراق والشام» على معظم أحياء مدينة الرقّة، سُجّلت التغريدة الأخيرة ظهر أمس: «أبو بكر البغدادي الآن في الرقة».

يمكنكم متابعة رضوان مرتضى عبر تويتر | @radwanmortada