ليلة الأحد الماضي، أعلن مكتب النائب العام الليبيّ إطلاق سراح عدد من رموز نظام معمر القذافي. ورغم مرور أيام من دون أن يُنفّذ الإعلان، تشير المعطيات المتسرّبة من طرابلس، مقرّ الاحتجاز، إلى احتمال تجاوز الأمر حدوده القضائيّة المُعلنة، ليشمل صفقة سياسيّة مع فاعلين في العاصمة. وقبل عامين من الآن، أعلنت «كتيبة أبو بكر الصديق» المتمركزة في مدينة الزنتان (تقع في غرب البلاد، وفيها موالون للسلطات الشرقيّة) إطلاق سراح سيف الإسلام القذافي، وذلك تطبيقاً لقانون العفو العام الذي أقرّه البرلمان الذي يدير أعماله انطلاقاً من مدينة طبرق في شرق البلاد. منذ ذلك الحين، تكاثر الناطقون باسم نجل الزعيم الراحل، وعقد بعضهم ندوات عرضوا فيها برنامجه السياسيّ للفترة المقبلة، لكن «لا يوجد دليل على توقيع إطلاق سراحه»، وفق ما يرى جلال حرشاوي، الباحث في الشأن الليبيّ، خلال حديث إلى «الأخبار». كلام حرشاوي لا يأتي من فراغ، إذ تبرز بين الفينة والأخرى معلومات عن قرب ظهور سيف الإسلام، وعن وجوده «في مكان ما» داخل مدينة الزنتان أو خارجها، دون أن يُردف ذلك بدلائل ملموسة. لكنّ اللافت من الناحية السياسيّة كان ردّ فعل خليفة حفتر، حيث اتخذ قراراً بحلّ «كتيبة أبو بكر الصديق»، وأعاد دمجها ضمن تشكيلات أخرى تابعة له في غرب البلاد. وبداية هذا العام، أدلى الرجل بتصريحات لمجلّة «جون أفريك» قال فيها «لا يزال العديد من السذّج للأسف يعتقدون في إمكان أن يكون سيف الإسلام حلاً... مرحلة نفوذه صارت من الماضي»، مضيفاً القول: «هو الآن سجين، نودّ الإفراج عنه في أقرب وقت ممكن، لكن البعض يسعى إلى مساومته واستخدامه لأغراض أخرى»، وهو أمر يعاكس قول رجاله الميدانيّين الذين أكدوا إخلاء سبيله.
ولا يرى حرشاوي غرابة في هذه المواقف المتناقضة، فحفتر بالنسبة إليه «ليس قذافيّاً، بل هو إنسان محافظ معادٍ للقذافيّة». رغم عدم إيمانه بهم، احتضن الرجل قبل شهر مؤتمراً مهمّاً للقذافيّين في مدينة بنغازي، منطقة نفوذه في شرق البلاد. حيث انعقد «ملتقى القوى الوطنيّة الليبيّة» تحت شعار «من أجل إنقاذ الوطن من الإرهاب والفوضى والتدخّل الأجنبيّ»، وجمع عدداً من المسؤولين السابقين، وانتهى بإعلان الدعم لجهود حفتر العسكريّة.
لتفسير المفارقة أكثر، يقول حرشاوي: «لأنّ حفتر يحارب أساساً الإسلاميّين منذ شهر أيار 2014، اضطر إلى إبداء بعض الانفتاح تجاه العديد من التيارات القذافيّة، بخطوات محدودة، ولا يمكن حتى الآن الحديث عن تحالف نهائيّ وقويّ». ويرى الباحث أنّ من أسباب ذلك «السلفيّة المدخليّة، الذين يريدهم حفتر إلى جانبه، وهم معارضون بشدّة للقذافيّين... ولأنّ حفتر لم يحتضن جميع التيارات القذافيّة الموجودة في ليبيا، ولأن بعض هذه التيارات تشعر بأنّه يتجاهلها، فإنّ من المحتمل أن تتحالف مع أعدائه».

ميليشيات الغرب... لا مواقف ثابتة
الإشارة إلى أعداء حفتر تعني بالضرورة الميليشيات المنتشرة في غرب البلاد، وأهمّها في هذه الحالة تلك المتمركزة في العاصمة طرابلس. هناك، لا توجد أجهزة أمنيّة وعسكريّة رسميّة إلاّ على الورق، ما يوجد فعليّاً هي ميليشيات مختلفة المشارب، بعضها متورّط في أنشطة إجراميّة مثل تهريب البشر والنفط وتخضع لعقوبات دوليّة، لكنّها تتلقى دفوعات ورواتب من حكومة الوفاق الوطنيّ المعترف بها دوليّاً حتى تحمي وجودها الهشّ.
في ما يخصّ القذافيّين، فإنّ بعض أهمّ شخصياتهم تقع تحت سلطة هيثم التاجوريّ، وهو زعيم إحدى أكبر ميليشيات العاصمة العاملة تحت اسم «كتيبة ثوار طرابلس». منتصف العام الماضي، دهمت قوات التاجوري «سجن الهضبة»، وافتكته من قبضة قوات تتبع «حكومة الإنقاذ» ورئيسها خليفة الغويل، وهي حكومة غير معترف بها دوليّاً طُردت من طرابلس مع وصول حكومة الوفاق، ولا تحظى الآن إلا بدعم محدود للغاية في بعض مناطق غرب البلاد.
عقب سيطرة التاجوري على السجن، أطلق بعضَ الوجوه الثانويّة من نظام القذافي، واحتفظ بالوجوه البارزة في «مكان احتجاز فاخر ومريح»، وفق ما يقول الباحث جلال حرشاوي. عمليّاً، لا يُعرف الكثير عن برامج التاجوري تجاه هؤلاء، لكن المعلوم هو إصدار محكمة في طرابلس قرار تبرئة في حقّ الساعدي القذافي، نجل معمّر القذافي، قبل ثلاثة أشهر، دون أن يُطلق سراحه حتى الآن. المعلوم أيضاً أنّ الأسماء التي أعلن النائب العام إطلاق سراحها يوم الأحد موجودة في سجون التاجوري. ومن تلك الأسماء يوجد أبو زيد دوردة، مسؤول الأمن الخارجيّ، وعبد الحميد عمار أوحيدة، أحد ضباط الاستخبارات العسكريّة، (محكومان في الطور الابتدائيّ بالإعدام)، وجبريل الكاديكي المسؤول عن الطيران العسكريّ في آخر زمن حكم القذافي (محكوم في الطور الابتدائيّ بالسجن لمدة 12 عاماً).
تبرز بين الفينة
والأخرى معلومات عن قرب ظهور سيف الإسلام القذافي


بالعودة إلى الملف، نجد أنّ النائب العام، وهو للإشارة أحد المناصب العليا القليلة التي لا تشهد تنازعاً بين سلطتي الشرق والغرب، برّر قرار التسريح بتدهور الظروف الصحيّة للمحتجزين. كذلك نجد أنّ التاجوري تفاعل إيجابيّاً مع القرار، حيث أصدر أمراً يسمح لهم بالإقامة والتجوال في العاصمة. أبعد من ذلك، نشر أول من أمس موقع إيطاليّ مختصّ في الشؤون الليبيّة، خبراً يرتكز على «مصادر مقربّة من عائلة القذافي»، مفاده انعقاد اجتماع في فندق «راديسون بلو» عشيّة يوم الأحد، جمع التاجوري وأحد معاونيه بدوردة والساعدي القذافي ورئيس الاستخبارات السابق عبد الله السنوسيّ، وشارك فيه أيضاً أحد أعضاء المجلس الرئاسيّ (هيكل يشرف على أعمال حكومة الوفاق)، وهو يأتي «ضمن مسار المصالحة الوطنيّة».
في تعليق على هذه التطوّرات، قال مصدر مقرّب من ميليشيات المنطقة الغربيّة خلال حديث إلى «الأخبار»، إنّ «إطلاق سراح هؤلاء يبدو مدفوع الأجر، فقد جاء بعد عودة التاجوري وعدد من قادة المجموعات من أبو ظبي، وعودة حفتر والسراج من رحلة إلى السعوديّة». وأضاف المصدر: «تعتقد المجموعات الثوريّة أنّ شيئاً ما يجري التخطيط له، تحضيراً لتشكيل حكومة جديدة توصل حفتر إلى طرابلس... وتهدّد بعض المجموعات بالانتقام إذا حاول القذافيّون العودة إلى المشهد».
وتحيل الإشارة الأخيرة بشكل واضح إلى ميليشيا «قوّة الردع الخاصّة»، التي يقودها الشيخ السلفيّ عبد الرؤوف كارة، وهي تسيطر على مطار معيتيقة في طرابلس (خارج عن الخدمة) وأسست داخله سجناً يحوي أكثر من ألفي موقوف دون إذن قضائيّ. وتحظى «القوّة» برعاية خاصّة من رئيس حكومة الوفاق فائز السراج، حيث أصدر بداية الشهر الماضي مرسوماً يوسّع من صلاحيات عملها داخل العاصمة.
لكنّ المهمّ هو الرفض الشديد الذي تكنّه المجموعة للقذافيّين، حيث أوقفت نهاية الشهر الماضي ما سمّته «خليّة تخريبيّة» تتبع «الجبهة الشعبيّة لتحرير ليبيا» (تنظيم قذافيّ التوجّه). لاحقاً، قدمت «الجبهة» رواية أخرى للأحداث، حيث قالت إنّ جميع الموقوفين تقريباً شخصيّات لها ماضٍ عسكريّ، وهم يمثّلون وفد مصالحة أرسلته بطلب من بعض الفاعلين في العاصمة، لكنهم «وقع استدراجهم وغُدر بهم». ومن المهمّ هنا الإشارة إلى أنّ تقوية حكومة الوفاق لميليشيا كارة تغذّي الصراع على السيطرة بينه وبين التاجوريّ، وهو أمر يرى جلال حرشاوي أنّه قد يكون دافعاً «لأن يقوم (الأخير) بما يبغضه السلفيّون: مصادقة القذافيّين».