لم يكن هناك حوار عام على شيء من الجدية والموضوعية في زوايا النظر حول الحكومة المصرية الجديدة باستثناء تعليقات مقتضبة على ورق صحف، أو تفاعلات صاخبة على شبكة التواصل الاجتماعي.الاقتضاب حيث يجب الإسهاب في الحجج، كما الصخب بلا قاعدة معلومات موثوقة، يؤشران على الحالة الصحية المتراجعة للحياة السياسية.
كان ضيق المجال العام وتقلص مساحات الحريات الصحافية والإعلامية داعياً أول لشبه غياب أي اجتهادات في الأزمات الماثلة، التي يدفع المواطن العادي فواتيرها، فلا حوار ممكناً إذا لم تتوافر بيئة عامة تحترم التنوع الطبيعي في الآراء والمواقف بشأن الخيارات والسياسات.
وكانت الإجراءات الاقتصادية الأخيرة داعياً ثانياً للعزوف العام عن الانشغال بالحكومة الجديدة، لماذا خرج من خرج ولماذا دخل من دخل؟ فالسياسات على حالها أياً كانت الوجوه الوزارية.
أي حكومة جديدة تستحق فسحة زمن للحكم عليها بقدر ما تتبنى من سياسات وتنجز من مشروعات، غير أن توقيت تشكيلها صاحب إجراءات اقتصادية قاسية رفعت أسعار الوقود والكهرباء والمياه والنقل العام والخاص ورسوم الخدمات العامة بصورة غير مسبوقة، وذلك قوّض، قبل أن تبدأ عملها، أيّ رهان عليها في تحسين الأحوال.
ثم كانت الدعاية المفرطة وغير المسبوقة في الشوارع والميادين العامة وعلى الفضائيات للترويج للسلع والبضائع باسم دعم المنتخب الوطني لكرة القدم في «مونديال موسكو» داعياً ثالثاً لقلة الاهتمام العام بالتشكيل الحكومي الجديد، فالعمل الدعائي يعطي شيئاً من الأمل المخاتل لا يوفره الواقع التنفيذي المتعثر.
مع ذلك كله، فإن الأسئلة الرئيسية تظل معلقة في الفضاء. فإذا لم يكن هناك حوار يصحّح ويصوّب السياسات والأولويات، فإن الأمور سوف تتجه إلى احتقانات وأزمات لا تحتملها مصر المنهكة.
في مقدمة تلك الأسئلة طريقة اختيار الوزراء، على أي أساس ووفق أي مهمة أو تصور ورؤية؟
بصياغة أخرى للمفكر الاقتصادي الراحل الدكتور إسماعيل صبري عبدالله: «من أين يجيئون بهؤلاء الوزراء؟».
الإجابة المعتادة تنفي أيّ خبرة سياسية وتأتي بالوزراء من الوسط الإداري، أو الوسط الأكاديمي، أو بتدخلات غالبة لجهات في الدولة ترشح وتستبعد.
بالنظر إلى سجل رئيس الوزراء الجديد مصطفى مدبولي، فإنه يكاد يكون صورة أخرى من سلفه شريف إسماعيل.
كلاهما لم يعهد عنه، في أي وقت من حياته قبل توليه رئاسة الحكومة، أيّ قدر من الاهتمام بالعمل العام يتجاوز دوره الوظيفي. وكلاهما تنفيذي كفء في حدود تخصّصه فيما يوكل إليه من مهام، الأول في حقل البترول... والثاني في ملف الإسكان.
من الإنصاف لأدوار الرجال عندما يغادرون مواقعهم أن ينسب لشريف إسماعيل التطور اللافت في مستوى أدائه لمهامه، حيث بدا عند البدايات كأن عالماً آخر قد دخل إليه تواً، لا يعرف أحداً من الشخصيات العامة ولا أحد يعرفه باستثناء من يدخلون في نطاق عمله، كما لم تكن لديه دراية يعتد بها بالملف الاقتصادي الذي حُمِّل إياه، لكنه بعد فترة بدا أكثر انفتاحاً على الحياة العامة بقدر ما ساعدته صحته، وأكثر حفظاً للأرقام والبيانات من دون أن يضطر إلى النظر في أوراقه، كما تحلى بلطف إنساني أذاب جليداً داخل مجلس الوزراء وخارجه.
غير أن كل تلك الصفات الإيجابية لم تسعفه في بناء صورة رئيس وزراء تتّسق أدواره التنفيذية مع التعريف الدستوري، الذي ينص على أن «الحكومة هي الهيئة التنفيذية والإدارية العليا للدولة»... ويدخل في اختصاصها: «الاشتراك مع رئيس الجمهورية في وضع السياسة العامة للدولة والإشراف على تنفيذها».
بالتعريف الدستوري، هذه هي «الحكومة السياسية».
إذا غابت الشراكة في وضع السياسة العامة للدولة، فإن الحكومة لا تتجاوز كونها «سكرتارية رئاسية»، تنفذ ما تكلف به، كل وزير على حدة غالباً، لا برنامج يضمّها، ولا مسؤولية تضامنية تجمعها، ولا أدوار لرئيسها خارج التنسيق العام بقدر ما هو متاح.
في الأحوال الحالية يكاد يكون طلب «الحكومة السياسية» مستحيلاً رابعاً، فلكل شيء أصوله. أهم أصل أن تكون هناك حياة سياسية وبرلمانية صحية ومؤسسات دولة تلتزم بالدستور وبيئة حزبية تقدر على إنتاج الكوادر الصالحين لتولّي المهام التنفيذية، وهذه مسألة تجربة لا بد أن تأخذ وقتها.
بعد 30 حزيران/يونيو 2013، شهدت مصر أول وآخر «حكومة شبه سياسية» في العقود الأخيرة، وهي الحكومة التي ترأسها حازم الببلاوي. فقد ضمّت 9 وزراء لهم خلفيات سياسية ينتمون إلى أحزاب «جبهة الإنقاذ الوطني»، غير أن الظروف والملابسات لم تسمح لها بأن تراكم خبرة، فقد كانت مهمتها الأساسية أن توقف الدولة على أرض صلبة في مواجهة عنف وإرهاب.
ثم كانت حكومة إبراهيم محلب، وهو رجل له همّة أكسبته شعبية لم تتوافر لغيره، عودة إلى حكومات التكنوقراط المعتادة، رغم أنه هو نفسه له خبرة سابقة في منظمة الشباب أثناء سنوات «يوليو».
هكذا دخل مدبولي مكتبه محمّلاً بالإرث نفسه، فهو رئيس حكومة ليس من شأنها رسم السياسات العامة، أو الاجتهاد خارج الخطوط المرسومة لها. بموضوعية، لا يصح تحميلها فوق ما تحتمل، أو مطالبتها بما هو فوق طاقتها. غير أن الأسئلة التي تطرح عليها، تستدعي إجابة ما أمام الرأي العام.
على رأس الأسئلة قضية العدل الاجتماعي وعدالة توزيع الأعباء. الأولوية الحكومية للإصلاح المالي، خفض نسب التضخم والتحكم في الأسعار. هكذا كانت حسابات الحكومة السابقة التي تسري على الحالية.
بالتعبير الرئاسي «إننا يجب أن نتألم ونقاسي لنكون دولة قوية وذات شأن». من هم المخاطبون بتحمّل الألم والقسوة؟ وإلى متى؟... ومن يتحمّل مسؤولية الأزمة الاقتصادية المتفاقمة؟... ما هو موروث منها وما هو مستجد؟ لماذا تتحمّل الطبقة الوسطى والفئات الأكثر عوزاً وحدها فواتير الإصلاح المالي؟ ولماذا لا يفرض على الطبقات الأكثر ثراءً ما ينص عليه الدستور من ضرائب تصاعدية؟
في اجتماعين ضيقين طرحت على رئيس الوزراء السابق شريف إسماعيل قضية عدالة توزيع الأعباء وما تستدعيه من تقشّف حكومي وفرض ضرائب تصاعدية. أبدى اقتناعه بذلك، لكن لم يحدث شيء، فقد تبخّرت وعود التقشّف ورفع المجلس النيابي مخصّصاته فيما هو يدعو المواطنين العاديين إلى التحمّل ويشكرهم على صبرهم، ولم يقترب أحد من الضرائب التصاعدية، ولم يبدُ هناك سبب مقبول لتأجيل ضريبة الأرباح الرأسمالية في البورصة.
إنه انحياز اجتماعي يهدّد البلد في سلمه وسلامته ومستقبله.
بأي نظر في التفاعلات المصرية تحت السطح، فإن المعارضة الاجتماعية تزداد معدلاتها بصورة متفاقمة.
في غياب السياسة التي تكشف وتبين وتنذر في الوقت المناسب لتصحيح المسارات، فإن مداهمات الحوادث لا يمكن استبعادها.
بتعبير رئاسي ثان: «الإجراءات الاقتصادية قد ترهق المواطن لكنها لا تكسر ظهره». ما حدود طاقة التحمّل؟ وما هي النقطة المفترضة التي تكسر ظهره؟
وبتعبير رئاسي ثالث: «أولويات المرحلة المقبلة تتصدرها قضايا التعليم والصحة والثقافة». كيف وبأيّ برنامج وبأيّ تصور لإدارة الأزمات المستحكمة؟ من أين الموارد؟ ألا يستدعي ذلك التوقف عن المشروعات العملاقة لصالح المشروعات الإنتاجية؟
ثم إن الثقافة مسألة إبداع وخلق تتطلب طرح قضية الأمن والحرية بكامل الجدية. كيف نصون الأمن دون تغوّل على الحريات العامة ومصادرة الحقوق الدستورية للمواطنين؟
هذه أسئلة في صلب السياسات والأولويات، لكنها ليست إجبارية لحكومة غير سياسية. الإجابة ليست من اختصاصها، لكنها بدرجة أو أخرى في موضع المسؤولية.
*كاتب وصحافي مصري