قرّرت «المحكمة الاتحادية العليا» (أعلى سلطة قضائية في العراق)، أمس، إعادة فرز أصوات الانتخابات التشريعية يدوياً، عقب تصاعد الخطاب الاتهامي بين القوى السياسية بالتزوير واللعب بالنتائج في عدد من المراكز والمحطات الانتخابية. قرار المحكمة أُعلن على لسان رئيسها، مدحت المحمود، الذي أكد أن «المحكمة ترى بتوجه مجلس النواب بإعادة العد والفرز إجراءً تنظيمياً وليس فيه مخالفة لأحكام الدستور»، وذلك بعدما ألزم مجلس النواب «المفوضية العليا المستقلة للانتخابات»، مطلع حزيران/ يونيو الجاري، بإعادة الفرز اليدوي لأصوات المقترعين. وأوضحت المحكمة في قرارها أن «القاضي المنتدب لا يجمع في الوقت نفسه بين القيام بمهامه القضائية ومهامه في المفوضية... لذا فلا مخالفة مع أحكام الدستور»، رافضةً ــ في الوقت عينه ــ قرار البرلمان إلغاء نتائج انتخابات الخارج والاقتراع الخاص وتصويت النازحين، معتبرة ذلك «هدراً للأصوات ومصادرة لإرادة الناخبين»، لكن المحمود بيّن أن النتائج التي «شابتها المخالفات كالتزوير وغيره، والتي رفعت بشأنها شكاوى إلى المفوضية، يمكن إرجاء إعلان نتائجها إلى حين البتّ فيها سلباً أو إيجاباً».وأعاد قرار المحكمة إحياء التحذيرات من الوقوع في «فراغ دستوري»، خصوصاً وأن الدورة البرلمانية الحالية تنتهي في 30 حزيران/ يونيو الجاري، في وقت لم يُحسم فيه شكل البرلمان المقبل وتوزع مقاعده على الكتل السياسية من جهة، وفي ظل عجز الأخيرة ــ حتى الآن ــ عن حسم تحالفاتها النيابية، ومسألة تشكيل الكتلة الأكبر المنوطة بها تسمية رئيس الوزراء المقبل. وعليه، فإن الحكومة الحالية برئاسة حيدر العبادي ستواصل عملها كحكومة تصريف أعمال حتى تتم تسمية الرئيس المقبل الذي سيباشر بدوره عملية تأليف حكومته. ويحذّر البعض، في هذا الإطار، من أن تطول مدة العد والفرز اليدوي، ما يعني تأخير الإعلان النهائي عن نتائج الانتخابات، وفق ما نبّه إليه، أمس، زعيم «التيار الصدري»، مقتدى الصدر، في حين فسّرت أطراف أخرى قرار المحكمة بأن ليس شاملاً بنسبة 100%، ولا حتى بنسبة 5 إلى 10%، أو بشكل عشوائي، إنما سيكون محصوراً فقط «في المراكز التي طُعن في نتائجها، وقُدّمت شكاوى حولها».
وأياً يكن، فإن قرار المحكمة لن يحدث، بحسب متابعين، تغييراً جوهرياً في النتائج الحالية، ولعلّ هذا هو ما يفسّر صدور مواقف شبه راضية من معظم القوى الفائزة تعليقاً عليه. ومع ذلك، فإن الصدر أعرب عن «عدم اقتناعه بالقرار»، داعياً أنصاره إلى «ضبط النفس والإذعان للقانون»، آملاً في الوقت نفسه من القضاء الالتزام بـ«الحيادية في مسألة العد والفرز اليدوي... وأن يحدد له فترة زمنية غير طويلة». وطالب الصدر أيضاً الكتل السياسية بـ«السير قدماً نحو تحقيق الحوارات الجادة، من أجل تحقيق التحالفات المناسبة التي تراعي الإصلاح الحقيقي»، معبراً عن تخوفه من أن تؤدي عملية العد والفرز إلى «إعادة إجراء الانتخابات والتعدي على أصوات الناخبين، وبالتالي سيكون وأداً للعملية الديمقراطية».
تدور معظم التوقعات حول تغييرات في الكتل «السنية والكردية»


من جهته، أعلن «ائتلاف النصر» بزعامة العبادي التزامه بقرار المحكمة، فيما وصف زعيم «ائتلاف الوطنية»، إياد علاوي، القرار بـ«الضربة القاصمة» لإرادات الفساد والتزوير. وأكد الأمين العام لـ«الاتحاد الإسلامي الكردستاني»، صلاح الدين بهاء الدين، بدوره، التزامه قرار المحكمة، بعدما ثبت «التلاعب في التصويت الخاص في الإقليم». أما المكتب الإعلامي لرئيس مجلس النواب، سليم الجبوري، فقد ثمّن القرار، مشدّداً على «احترام البرلمان لجميع قرارات القضاء العراقي». والجدير ذكره، هنا، أن قرار «الاتحادية» يرفع حظوظ الجبوري بالعودة إلى البرلمان، لا سيما وأن التوقعات تدور حول حدوث تغييرات في الكتل «السنية» والكردية، بينما يُرجّح أن تخسر بعض الكتل «الشيعية» عدداً محدوداً من نوابها لصالح أخرى، من دون أن يمس ذلك بترتيب الفائزين («سائرون» أولاً، «الفتح» ثانياً، «النصر» ثالثاً).
على خط مواز، لا يزال حراك ترتيب البيوتات الداخلية للمكونات، تمهيداً لتشكيل الكتلة الأكبر، متواصلاً. وفيما تكثف القوى «السنية» والكردية محاولتها انتزاع حصص وازنة في التشكيلة الحكومية المقبلة، تسعى القوى «الشيعية» إلى الاحتفاظ بـ«أحقيتها» في تسمية رئيس الوزراء المقبل وحصر هذا الأمر في بيتها الداخلي. وفي ظل افتقاد «البيت السني» الرعاية الإقليمية، تنحو قواه إلى البحث عن عمود فقري وأرضية مشتركة توحدها، ويمكنها من خلالها تشكيل كتلة تفرض نيل حصة معينة من التشكيلة الوزارية. وتشير مصادر «الأخبار» إلى وجود نقاشات جادة لتشكيل ائتلاف يضم تلك القوى على غرار «اتحاد القوى الوطنية» (تجمع الكتل النيابية السنية)، خصوصاً وأن القوى «الشيعية»، إذا فشلت في مشروعها الحالي لإحياء «التحالف الوطني» (تجمّع الكتل النيابية الشيعية)، فستعمل على فرط عقد الكتل «السنية» الصغيرة المتناثرة، ومحاولة ضم نوابها إليها بهدف تشكيل الكتلة الأكبر.
كردياً، بات من شبه المحسوم إبرام تحالف بين الحزبين الأساسيين (الديموقراطي والاتحاد الوطني)، وفق النائب عن كتلة «الاتحاد الوطني»، شوان داودي، الذي أكد أن المحادثات بين الحزبين متواصلة في كل مراحل العملية السياسية، لافتاً إلى وجود «تفاهم وتقارب لعقد تحالف ثنائي». وأضاف: «لا نرى أي إشكالات أو عقبات من شأنها إعاقة نجاح الخطوة، والأمر يبدو شبه محسوم»، مبيناً أنهما سيذهبان إلى العاصمة بوفد مشترك، في تلميح إلى أن التمثيل الكردي في إطار التحالف مع المكونات الأخرى يجب أن يكون محصوراً بهذا الحلف رغم وجود معارضة له. معارضة، وإن استطاعت تشكيل كتلة نيابية (بمعزلٍ عن عددها)، ستجد نفسها مرغمة على الانضواء تحت لواء الكتل «الشيعية»، سواء انقسمت الأخيرة بين موال للحكومة ومعارض، أو نجحت في إحياء «التحالف الوطني».



فراغ تشريعي لا دستوري
يرى الخبير القانوني، طارق المعموري، أن التغيير - إن حصل بعد الفرز اليدوي - سيكون في المناطق ذات الغالبية السنية والكردية، مشيراً في حديثه إلى وكالة «فرانس برس» إلى أن «التزوير يمكن أن يقع من خلال العد والفرز اليدوي، أكثر بكثير من العد الإلكتروني». وأضاف أنه «إذا أدار القضاة العملية بكفاءة، فإن التزوير يتقلّص بنسبة كبيرة جداً»، معتبراً أن «تصويت الخارج لن يغير شيئاً إذ إنه يشكل فقط 3 في المئة من مجموع الأصوات». ولفت إلى أن «العد والفرز لأصوات النازحين، خصوصاً في محافظات الأنبار وصلاح الدين والموصل، سيغير النتائج في عدد من مقاعدها»، أما في «إقليم كردستان»، فإن «الاتحاد الوطني الكردستاني سيخسر كثيراً، لأنه أكثر المستفيدين من التلاعب». وعلى رغم أن عملية الفرز اليدوي قد تستغرق وقتاً طويلاً، إلا أن المعموري يؤكد أنه «لن يكون هناك أي فراغ دستوري، بل فراغ تشريعي فقط، إذ إن الحكومة الحالية ستواصل تصريف الأعمال».