يمكننا أن نقرأ «أسرار» المفاوضات الفلسطينية ــــ الإسرائيلية، البالغة الغموض والوضوح معاً، في ضوء ثلاثة معطيات هي: أولاً، أن إدارة الرئيس الأميركي، باراك أوباما، تريد تحقيق إنجازٍ ما على المسار الفلسطيني، في المدى المنظور، ليس فقط للمساهمة في بناء إرث أوباما ــــ كيري، وإنما، بالأساس، لتنظيم الصراع في فلسطين وخفضه وضبطه في سياق دبلوماسي وسط المتغيرات الدولية والعواصف الإقليمية، المفتوحة الاحتمالات، ثانياً، أن إسرائيل معنية بتوطيد ذلك السياق، وتعزيزه، خصوصاً أنه يمنحها السلام والأمن والاستيطان وضمّ الأراضي وإلغاء حق العودة والقبول الدولي، في طبق واحد.
ولا ائتلاف الحكومة الإسرائيلية، ذلك الطبق الشهيّ، وإنما الحصول على المزيد من المكتسبات الميدانية، لكن من دون التفريط باللحظة الاستراتيجية الراهنة للتحالف الإسرائيلي ــــ السعودي في مواجهة إيران؛ لدى الرياض أولوية الدولة السنية في سوريا ــــ وتدعمها إسرائيل ــــ بينما تريد تل أبيب دولة يهودية في فلسطين ــــ وتدعمها السعودية. ثالثاً، أن قوى الاعتراض الفلسطينية والعربية والإقليمية، مشلولة: «حماس»، المتورطة في الصراعات العربية ــــ العربية، في وضع هشّ للغاية، لا يسمح لها بأكثر من القيام بإطلاق التصريحات.
سوريا جريحة ومشغولة بإدارة أزمتها. إيران ملزوزة إلى أولويات واقعية؛ إنها تسعى إلى الخروج من الحصار والتهديد والحصول على حقها في النووي، والمحافظة على الحليف السوري وحزب الله، وضبط الانفجار التكفيري في المنطقة. روسيا التي حققت انجازات جدية في الملفين السوري والإيراني، لن تفعل شيئاً في الملف الفلسطيني، طالما أنه ليس لديها حليف في فلسطين، تركن إليه، ويدعوها إلى
التدخل.
تنطلق خطة كيري من الواقع كما هو، ساعية إلى تثبيت العناصر الواقعية القائمة والمستقرة، ومعالجة ما بقي منها قلقا بـ «روح عملية»؛ سنأخذ، أولاً، ملف اللاجئين. تقترح الخطة إقرار الواقع كما هو في الأردن، حيث القسم الأكبر من اللاجئين الفلسطينيين. هؤلاء تجنّسوا بالجنسية الأردنية، وأُعيد توطينهم فعلاً. وبالنسبة لأولئك الذين ما يزالون يملكون حوافز وطنية للعودة ــــ والمتوقع أن أعدادهم محدودة ــــ يمكنهم ذلك إلى أراضي الدولة الفلسطينية.
المشكلة تكمن في لاجئي لبنان ــــ وبعد 2011 في لاجئي سوريا أيضا ــــ وهؤلاء سيمكنهم الحصول على هجرة قانونية إلى استراليا وكندا بتمويل خليجي. وتبقى الحالات الخاصة والإنسانية التي على أصحابها التقدم للحكومة الإسرائيلية، من دون أي التزام من طرفها بالقبول، بطلبات فردية للحصول على الجنسية الإسرائيلية.
لكن، خلف هذا الواقع الساكن الظاهر، هناك العديد من المشكلات التي قد تقود إلى نسف ما هو مستقر أصلاً؛ ففي الوضع الخاص بالأردن، لا يعترض النظام على تثبيت توطين الفلسطينيين ــــ الأردنيين، لكنه يريد التعويضات للخزينة وليس للأفراد. وهو ما بدأ يثير نقاشات؛ فالقيادي الفلسطيني ــــ الأردني، لبيب قمحاوي، يكتب مقالاً غاضباً يلحّ على منح التعويضات للاجئين وليس للحكومة الأردنية. وإذا ما كانت هناك تعويضات فعلاً، فإنها ستثير مشكلة داخلية.
لكن الأهم هو أن التيارات السياسية الشرق أردنية، تعترض على المبدأ نفسه؛ يطالب بعضها بتطبيق العودة السياسية (أي حصول اللاجئين على الجنسية الفلسطينية، وحق الإقامة في الأردن)، ويؤكد بعضها على العودة الفعلية، خصوصاً للنازحين من الضفة الغربية وغزة، اللتين ستنشأ على أراضيهما، الدولة الفلسطينية، مما يعطي لأبنائهما، حكماً، الحق في الجنسية والعودة.
كانت الضفة الغربية جزءاً من المملكة، حتى صدور قرار فك الارتباط معها العام 1988 وتعليماته التي اعتبرت المقيمين في الضفة، فلسطينيين. مؤخراً، وبصمت، أوقفت الحكومة الأردنية العمل بتلك التعليمات. وهو ما يفتح الباب أمام تجنيس حوالي مليون فلسطيني وفدوا بعد 1988، وحوالي ثلاثماية ألف غزّي مقيمين منذ عام 1967.
وفي خطوة أخرى، ستؤدي إلى اجتذاب حوالي ربع مليون فلسطيني للانتقال من الضفة الغربية للإقامة الدائمة في الأردن، أصدرت الحكومة الأردنية، مطلع الأسبوع الحالي، قراراً بمنح الحقوق المدنية لأزواج وأبناء المواطنات الأردنيات.
النظام الأردني يتساوق، واقعياً، مع خطة كيري بشأن اللاجئين، لكنه ما يزال يرفض، حتى الآن، القيام بأدوار سياسية أو أمنية أو عسكرية، داخل الأراضي الفلسطينية. المشكلة الكبرى التي يغفلها أنه سيواجه في اليوم التالي، استحقاقات ستقود البلد إلى الانفجار؛ فالانتقال من التوطين الواقعي إلى التوطين السياسي، يطرح، موضوعياً، إعادة هيكلة الدولة الأردنية، من حيث الهوية وطبيعة الدولة والنظام السياسي وتركيب المؤسسات والحصص السياسية الخ، وهذا الانقلاب ــــ الذي تدعمه قوى خارجية ومحلية ــــ يتمفصل، كما هو معروف، على حقل متفجر أصلاً من الصراعات الاجتماعية والفشل التنموي والفوضى وانتشار التيارات التكفيرية؛ خطة كيري ستفجّر الأردن.