خطت المسألة السوريّة خطوةً واسعةً نحو «مرحلة الخواتيم». وتكفّل ترتيب أوراق الجبهة الجنوبيّة باستكمال حلحلة «العُقد الوسطى» تمهيداً للالتفات نحو الملفّات الأخيرة بما تحويه بدورها من تفاصيل بالغة التعقيد. كان ملفّ الغوطة ومحيط دمشق أصعب «العُقد الوسطى» وأوّلها إنجازاً، ولعب النّجاح في حسمه دوراً مباشراً في طي ملف شمال حمص في شكل نهائيّ. وعلى رغم أهميّة الإنجازين المذكورين، فإنّهما كانا ليظلّا ناقصيَن لو لم يتبعهما (بفارق زمني متوسّط الطول) حسم ملف الجبهة الجنوبيّة بكلّ ما ينطوي عليه من تشابكاتٍ وما يشكّله إقفاله من دلالات. وليس من المبالغة القول إنّ الوصول إلى ترتيبات الجنوب كان الأصعب على الإطلاق في كلّ ما أُنجزَ منذ معركة الأحياء الشرقيّة لحلب. وتنبع خصوصيّة الجبهة الجنوبيّة من عوامل عدّة، على رأسها كثرة عدد اللاعبين الذين كانوا قادرين على التأثير فيه. وظلّ الثقل الأساسي في توجيه بوصلة «معارضة الجنوب المسلّحة» على امتداد السنوات المنصرمة من نصيب الولايات المتحدّة وبريطانيا بما يتناسب مع مصالح الكيان الإسرائيلي. علاوةً على المملكة الأردنيّة التي لعبت دوراً ثابتاً ومحوريّاً بصفتها «الظّهير الاستراتيجي» للمجموعات المسلّحة بمختلف مشاربها. كذلك؛ حضرت كلّ من السعوديّة وقطر والإمارات. وتفاوتت قدرات «الثلاثي الخليجي» على التأثير في موازين المشهد السوري بشكل عام، والجنوب بشكل خاص ما بين مرحلة وأخرى، وصولاً إلى الشهور الأخيرة التي أفضت إلى انعدام شبه تام لتأثير كلّ من السعوديّة وقطر في مقابل دور (غير معلن) لعبته الإمارات في إبرام أول اتفاقات درعا، وهو الاتفاق الذي أفضى إلى استسلام «قوّات شباب السنّة» أحد أقوى «فصائل الجنوب». وكانت الإمارات قد نسجت علاقة وطيدة مع الفصيل المذكور عبر رئيس جهاز الأمن الوقائي الفلسطيني السابق محمّد دحلان. ولا يمكن فصل السلوك الإماراتي عن الرغبات الأميركيّة التي ظلّت باستمرار ضابط إيقاع «داعمي فصائل الجنوب»، سواء في مرحلة «الموك» أو ما بعدها. وعلى نحوٍ مشابه للدور الإماراتي، لعب الأردنّ دوراً مباشراً في مضيّ معظم مجموعات درعا على خُطى «قوّات شباب السنّة» بعد أن أُبلغت تلك المجموعات بوضوح أنّ «رفض الانخراط في التسويات يعني رفع الغطاء الأردني لوجستيّاً وعسكريّاً وسياسيّاً». ويُعزى رضوخ المجموعات للتهديد الأردني إلى أنّه لا يمثّل الأردنّ فحسب، بل هو في واقع الأمر جاء بتفويض أميركي بريطاني إسرائيلي.
يُعزى رضوخ فصائل الجنوب للتهديد الأردني إلى أنّه لا يمثّل الأردنّ فحسب

ويأتي التحوّل الإسرائيلي في مقاربة قضايا الجنوب السوري بمثابة تسليمٍ بأنّ «قواعد اللعبة» قد تغيّرت كليّاً، وبات الخيار الأمثل في المرحلة الحاليّة البحث عن «تسكين الجبهات» والعودة إلى تفعيل «خط فك الاشتباك» في الجولان المحتل، مع العمل على انتزاع ضمانات روسيّة بابتعاد إيران وحزب الله عن هذا المحور تدريجاً. وتعليقاً على النقطة الأخيرة يقول مصدر سوري بارز لـ«الأخبار» إنّ «دمشق لا تناقش مع أعدائها أي تفاصيل تخصّ العلاقة بينها وبين وحلفائها». وينصح المصدر في هذا السياق بالعودة إلى تصريحات ومواقف سوريّة رسميّة عدّة، وعلى رأسها تأكيد الرئيس بشار الأسد منتصف الشهر الماضي أنّ «العلاقة العسكريّة وثيقة بين سوريا وإيران». ويرى المصدر السوري أنّ «دعم الأردن لاستقرار الجنوب السوري يمثل مصلحة أردنيّة في الدرجة الأولى». وتمثّل إعادة افتتاح المعابر الرسميّة بين الأردن وسوريا مصلحةً اقتصاديّة مشتركةً لا بين البلدين فحسب، بل بين عدد من دول المنطقة نظراً للأهميّة الاستثنائيّة التي يحظى بها طريق «دمشق – عمّان» في الموازين الاقتصاديّة بصفته واحداً من أهم مسارات الترانزيت العالميّة. ومن المنتظر أن تشكّل إعادة افتتاح معبر نصيب رسميّاً قفزةً في مسار «العمليّة السياسيّة» السوريّة تأسيساً على «المنافع الاقتصاديّة» التي باتت (من دون إعلان) ركيزةً أساسيّةً من ركائز الحل السوري. وتنضم إلى المعبر المفتاحي تفاصيل اقتصاديّة أخرى من بينها العودة الموعودة لأوتوستراد «حلب ــ دمشق»، ومن خلفه أوتوستراد «غازي عنتاب ــ حلب» الذي تُشكّل عودة الحياة إليه حال تحقّقها خطوةً كبيرة نظراً لحالة العداء المعلنة بين دمشق وأنقرة والتي لا تمكن مقارنتها بأجواء دمشق، عمّان. ويُفضل المصدر السوري عدم الخوض في أحاديث تفصيليّة في هذا الشأن، باستثناء الإشارة إلى «اختلاف جوهري مفادُه أنّ تركيّا تحتلّ أراضي سوريّة، الأمر الذي لا يفعله الأردن». يؤكد المصدر أنّ «الدولة السورية لم تكن مسؤولة عن أي تغير في العلاقة بينها وبين جيرانها، هناك دولٌ توهّمت أنّها تستطيع إسقاط الدولة السوريّة واللعب باستقرارها وثمّة جيران قرّروا السير في هذا المشروع، لكنّه فشل». نسأل المصدر عن مصطلح «إعادة تأهيل النّظام» الذي بات يتردّد بين فترة وأخرى فيتحفّظ بدايةً على توصيف «نظام». يقول: «في سوريا دولة ومؤسسّات دولة». ويضيف: «يمكنهم أن يحاولوا ترويج ما يشاؤون من مصطلحات لمواساة أنفسهم. في الحقيقة نحن نعلم، وهم يعلمون، والجميع يعلم أنّ سوريا تخطو بثقة نحو الانتصار على مشروع إسقاط الدولة، وأنّ أصحاب هذا المشروع قد بدأوا تأهيل أنفسهم للتعامل مع هذه الحقيقة».