هذه قضية ملحّة بضروراتها وضاغطة بتساؤلاتها.بقدر عدالة توزيع أعباء الإصلاح الاقتصادي يحصّن المجتمع نفسه من أي هزات مفاجئة تحت ضغط الأنين الاجتماعي المتصاعد.
لا مصر تحتمل هزات جديدة من فرط إنهاك شعبها، ولا قدرة التحمل مرشحة للبقاء على حالها.
بأي حسابات اجتماعية، فإن لطاقة التحمل حدوداً لا يعرف أحد ما قد يحدث إذا ما أفلتت تفاعلاتها عن أي قيد.
عدالة توزيع الأعباء من ضمانات سلامة المجتمع وتماسكه وثقته في مستقبله.
لا يعقل أن تتحمل الطبقة الوسطى والفئات الأكثر فقراً وعوزاً فواتير الإصلاح الاقتصادي وحدها، وتعفى من أي أعباء الفئات الأكثر غنى والوزراء والمحافظين وكبار المسؤولين.
إذا ما توافرت مقومات عدالة توزيع الأعباء، فإنها رسالة إلى المواطن المنهك بأنه ليس هناك فئات مستثناة تحصل على الامتيازات المالية وغير المالية، فيما هو مطالب وحده بالتجلد والصبر تحت عبء الأزمة.
أول مدخل ضروري فرض الضرائب التصاعدية وفق الالتزام الدستوري، الذي ينص عليها.
لا يوجد تسويغ واحد مقنع لتعطيل الالتزام الدستوري.
حجة تشجيع الاستثمار لا محل لها في أي نقاش، حيث تعرف اقتصادات السوق في دول غربية عديدة الضرائب التصاعدية من دون أن تؤثر في استثماراتها ومعدلات نموها.
بل إن أحد كبار رجال الأعمال المصريين اقترح على رئيس الوزراء الأسبق حازم الببلاوي، بعد تكليفه بمهمته اثر «٣٠ يونيو» فرض ضريبة على الثروة لمرة واحدة، لكن ذلك لم يحدث.
ولا يوجد تسويغ آخر لتعطيل ضريبة الأرباح الرأسمالية في البورصة فيما تستحدث ضرائب وجبايات على المواطن العادي تنهكه بقسوة وتمنع عنه قدرته على توفير الحد الأدنى من متطلبات الحياة بكرامة.
العدالة ليست حلاً لمشكلة تدهور مستويات المعيشة، لكنها تشعر كل مواطن بأن تحمل الأعباء مسؤولية مشتركة، وأنه يمكن في نهاية المطاف الخروج من المأزق الاقتصادي.
إذا غابت العدالة، فاليأس يخيم والإحباط يصل إلى ذروته.
وثاني مدخل ضروري التزام الحكومة بالتقشف وخفض إنفاقها دون تأثير على كفاءة أدائها لمهماتها.
الأزمة تقتضي ترشيد الإنفاق العام في ما لا لزوم له، أو مما يدخل في «أبهة السلطة».
بنفس توقيت الإجراءات الاقتصادية، التي وصفت بالمؤلمة، أعلنت الحكومة في ذلك الوقت أنها بصدد ترشيد الانفاق الحكومي بنسبة تقارب (٢٥٪).
لم يحدث ذلك الترشيد، ولا اتخذت أي إجراءات لها صفة الجدية، وبدا الكلام عنه فرقعة إعلامية.
العكس هو ما حدث تماماً، فقد زاد الإنفاق الحكومي حيث رفعت رواتب الوزراء وزادت مخصصات النواب واتسعت رقعة التمييز في بنية الدولة.
لم يجر أي التفات إلى حاجة أصحاب المعاشات والموظفين في الجهاز الحكومي إلى رفع مستحقاتهم حتى يمكنهم تدبير احتياجاتهم الأساسية.
المفارقة ـــ بذاتها ـــ تؤثر بالسلب في النظرة العامة بأكثر من أي توقع.
وثالث مدخل ضروري مكافحة الفساد.
لا يمكن في مجتمع يعاني بقسوة أن يتفشى فيه الفساد دون أن تكون هناك سياسات تمنعه من أن يكون مؤسسياً، أو ممنهجاً.
من حين إلى آخر، تكشف «الرقابة الإدارية» وقائع فساد تورطت فيها رؤوس كبيرة في مناصب حساسة بوزارات عديدة، أو في مصلحة الجمارك كما حدث قبل أيام.
حجم ما تكشف يشير إلى تفشي الفساد في بنية الجهاز الحكومي ـــ كأنه خلايا سرطانية.
لا يمكن أن تقنع مواطناً واحداً بأن يضحي ويتحمل إذا ما أفلت الفساد من كل عقال، معلناً عن نفسه في أحاديث الصباح والمساء دون تغيير في البيئة التي تنتجه.
ورابع مدخل ضروري نسق القيم في المجتمع المأزوم.
بأثر تحرير سعر الصرف مقابل الدولار الأميركي والإجراءات التي اتخذت للإصلاح المالي، تدهورت القدرة الشرائية للجنيه المصري ونقصت الأجور والرواتب الفعلية إلى النصف تقريباً.
سقطت الفئات الدنيا من الطبقة الوسطي في وهدة الفقر، وانخفضت مستويات معيشة أغلبيتها إلى حدود منذرة.
بالتعريف، الطبقة الوسطى هي رمانة ميزان أي مجتمع، التي تبدع وتفكر وتعتني بالشأن العام، كما هي كتلته الحرجة التي يتوقف عليها مصير البلد.
إذا ما تدهورت يدخل المجتمع كله في حالة ترنح، لا يقدر على الحركة ولا يصنع أملاً، ويصبح المستقبل نفسه معلقاً على مجهول.
هذا الترنح يؤسس لتوحش الجريمتين الجنائية والإرهابية بصورة غير محتملة.
لم تكن الجريمة المروعة في منطقة المريوطية، التي لم تتكشف أسرارها حتى الآن، سوى إشارة لما يمكن أن يتسع نطاقه ترويعاً للمواطنين.
قد يكون الأطفال الثلاثة، الذين وجدت جثثهم متعفنة داخل أكياس قمامة، ضحايا لعصابات جريمة منظمة، أو ضحايا لروح يأس وثأر دبت في أوصال أسر مطحونة.
البيئة الاجتماعية المأزومة مرشحة لإنتاج مثل هذه الجرائم، التي تلقي بأعباء إضافية على الأمن ترهقه وتشتته في وقت حرب مع الإرهاب وتوليه مهمات ليست من طبيعته.
خامس مدخل ضروري قضية الفقر ووطأتها ـــ وهذا أصل الموضوع وصلبه.
قضية الفقر قديمة في مصر، لكنها مرشحة للتفاقم تحت وطأة الغلاء وارتفاعات الأسعار والضرائب التي تفرض دون أن تلحقها أي زيادات في الدخول.
بالأرقام الرسمية، فإن نسبة (٢٨٪) من السكان تحت خط الفقر ـــ ربما ارتفعت بأثر الأزمة الاقتصادية، رغم أهمية برنامج «تكافل وكرامة» إلا أنه يقصر عن مواجهة حدة العوز.
كان لافتاً في برنامج الحكومة الجديدة تعهد رئيسها مصطفي مدبولي، أمام المجلس النيابي: «لن نترك شخصاً فقيراً يتكفف الناس، فالحكومة أولى به من ناحية التشغيل إن كانت لديه القدرة على العمل، أو من ناحية إعالته إن كان غير قادر على الكسب».
التعهدات تكتسب قيمتها من منصب صاحبها، لكنها تطرح سؤالاً لا بد من الإجابة عنه: كيف؟
إنها مسألة سياسات قبل أي شيء آخر.
إذا لم تكن هناك مراجعة للسياسات، فإن التعهدات لن تجد لها أرضاً تقف عليها.
المراجعة تقتضي إعادة فحص المشروعات ومدى أهميتها وأولوياتها، والسياسة الاقتصادية برمتها.
هذه مسألة تتطلب حواراً تشارك فيه العقول الاقتصادية المصرية باختلاف مدارسها بلا مصادرة لرأي، أو حجب لرؤية، طلباً للتصحيح والتصويب وبناء توافقات وطنية؛ على رأسها عدالة توزيع الأعباء، غير أن البيئة السياسة والإعلامية الحالية تكاد تجعل الحوار اللازم مستحيلاً رابعاً.
* كاتب وصحافي مصري