نضال عبد العال.. بالفعل يحتاج المرء الى زورق للانتقال بين الاحياء في المخيم، أو في أفضل الحالات الى «جزمة» طويلة تصلح لعمال المناجم! فيما ابتكر بعض الاهالي وسائل إبداعية لعبور الشوارع المغمورة بالمياه، فصفّوا أحجاراً كبيرة يفصل بين الواحد والآخر متر على طول بركة المياه كي يتسنى للمارين العبور بأقل أوحال ممكنة!

في مخيم نهر البارد الجديد، يزيد عدد الشوارع الرئيسية والفرعية عن عشرين شارعاً، المعبد منها لا يزيد على ثلاثة فقط. طبعاً هي ليست في وضع نحسد عليه، حيث الحفر تصلح كمسبح للأطفال بسبب سوء الاسفلت، إضافة الى كمّ هائل من المطبات الاسمنتية، الى درجة أنك قد تصادف ثلاثة أو أربعة مطبّات في عشرة أمتار وقد تزيد في بعض الحالات.
عاكس القدر أهل المخيم الجديد، كعادته مع الفلسطينيين، فكان أن جاءت الاراضي التي اشتروها بعد أن ضاق المخيم القديم بساكنيه، بين خط البترول وخط الغاز ومسار السكة الحديد القديمة ومجرى نهر البارد، وتمتد هذه الخطوط: الغاز والنفط وسكة الحديد، على طول المخيم الجديد جنوباً وشمالاً لتعبر شوارعه من فوقها أو بينها، فيما يعبر مجرى نهر البارد المخيم الجديد من الجنوب الشرقي نزولاً الى الغرب باتجاه البحر، فتأتي شوارع المخيم متلاصقة مع النهر أو تعبر من فوقه إجبارياً. وهذا ما جعل شوارع المخيم في معظمها في وضعية مشاع خطوط النفط والغاز وخط السكة القديم ومشاع النهر، وتمنع أجهزة الدولة اللبنانية الجهات الفلسطينية والأونروا المعنية من معالجة الشوارع وتزفيتها.
بينما كنت أقف على طرف شيء ما مغمور بالمياه، يقال إن في قاعه شارعاً، نادتني عجوز تجاوزت السبعين، نعم ياحجة؟ قالت إنها بحاجة الى مساعدة لتعبر المحيط! شعرت أني تسرعت في الرد، فكيف لي أن أساعدها على العبور وأنا كدت أسقط مرتين في أحد المستنقعات؟ أنقذني أحدهم، شاب في مقتبل العمر، ضحك واقترب من العجوز، قائلاً: الحجة إم رمزي إنت مثل امي، وحملها بين ذراعيه وقطع بها البركة متنقلاً من حجر الى آخر، والحجة تضحك بشدة ومن قلبها، وتقول انزلني يا «مسخم» شو عم تعمل،، ولم ينزلها إلا بعد أن صار على الضفة الاخرى. شكرته الحجة ومازحته وغادرت، أما المارّون والواقفون على جنبات الطريق فقد فقدوا صوابهم ضحكاً. كيف أتتك هذه الفكرة وكيف تجرأت على فعلها؟ واقترح عليه البعض أن يتخذها مهنة له طول فصل الشتاء. حين تسمع بعض الحجج والذرائع التي يسوقها المعنيون لبنانياً لمنع الجهات الفلسطينية والأونروا من تزفيت شوارع المخيم، حيث يقولون إن هذه مشاعات للدولة والاملاك العامة والبيئة والسلامة، تعتقد أن الأمور كلها تسير وفقاً للقانون، وأن الدولة عالجت كل المخالفات الكبيرة والصغيرة في المناطق المحيطة، وهي اليوم تستكمل ما أتمّته خارج المخيم.
روى لي صديقي حادثة وهو يعمل ممرضاً في أحد مستشفيات مدينة طرابلس، وأقسم لي أنها حقيقية. في ليلة من ليالي المحاور المشتعلة بين باب التبانة وجبل محسن، دخل ثلاثة شبان مدجّجين بالاسلحة الى قسم الطوارئ حيث وصل زميل لهم جريحاً ، فما كان من رجل الامن في المستشفى إلا أن غضّ الطرف وتلهّى بهاتفه الجوال، لكي يتجنّب شرهم. وبينما المسلحون يتنقلون من غرفة الى أخرى ومن قسم الى آخر بأسلحتهم ولا من يعترض طريقهم، أشعل أحدهم سيجارة، فبادرته إحدى الممرضات: لو سمحت يا أخ التدخين ممنوع في المستشفى وأيضاً في الاماكن المغلقة!
ابتسم المسلح وضحك زميلاه. هذه هي الحال في لبنان. التدخين ممنوع في الاماكن المغلقة، أما التفخيخ فمسموح في الاماكن العامة!