تفتح حادثتا الاعتقال الأخيرتان اللتان أقدمت عليهما السلطات السعودية، مُستهدِفةً بهما إمام الحرم المكي ومستشاراً سابقاً في «أرامكو»، الباب على مرحلة أكثر خطورة من «حملات التطهير» التي يديرها محمد بن سلمان. حملات لا يبدو الرجل مدرِكاً خطورتها على ما يسميها «رؤيته الإصلاحية» للمملكة، في ظل مؤشرات اقتصادية غير سارّة له تنذر بأن «أمواله ستغرق في الرمال» كما هو حال «مشروع نيوم».لا تراجع عن مسار «حبس الأنفاس». هذا ما يثبّته ولي العهد السعودي، محمد بن سلمان، يوماً بعد يوم. معادلة بات توسّعها أسرع بكثير مما توقّعه المراقبون. إذ لم تعد تقتصر على وجوه التيارات المناوئة للنظام، أو النشطاء الحقوقيين والسياسيين، أو حتى الشخصيات المشكوك في ولائها، بل أضحت تشمل كل من ينبس ببنت شفة مغايرة لـ«رؤية» ابن سلمان. مغالاة إن دلّت على شيء، فإنما على حجم المأزق الذي يعيشه الأمير الشاب، والذي لم يعد الحديث عنه مجرد تكهّنات، بل معطيات حقيقية وجادة يتداولها الخبراء والمحللون، الذين لم يعودوا يترددون في وصف ما يقوم به ولي العهد على المستويين الداخلي والخارجي بـ«الخطايا».
آخر ما أقدمت عليه السلطات الأمنية التابعة للرجل، في طريقها نحو توليد حالة غير مسبوقة من تكميم الأفواه، اعتقال إمام المسجد الحرام وخطيبه الشيخ صالح آل طالب، بحسب ما أكّد قبل يومين حساب «معتقلي الرأي» على موقع «تويتر»، عازياً الاعتقال إلى «خطبة له (لآل طالب) عن المنكرات، ووجوب إنكارها على فاعلها». وتكمن خطورة هذه الحادثة، وتمايزها عمّا سبقها، في أنها تطاول وجهاً منتمياً بالكامل إلى الجناح الديني للنظام، بل ومُعيَّناً في منصبه بموجب أمر ملكي صادر منذ ما يزيد على 15 عاماً. صحيح أن السلطات أقدمت، قبل ذلك، على اعتقال أستاذ في جامعة محمد بن سعود لم تُسجّل له سابقة في مخاصمة الحكومة (كسلمان العودة وعوض القرني وآخرين) هو الشيخ عبد العزيز الفوزان، إلا أن وصول موسى الاعتقالات إلى مَن هم عملياً المُكلَّفون إلقاء خطبة النظام الدينية في الحرم المكي ينبئ بمرحلة جديدة ستكون الوهابية فيها في دائرة الاستهداف المباشر. وهو ما ينطلق منه البعض لتوقع مناوشات بين الطرفين شبيهة بما حدث في أيلول/ سبتمبر من عام 1992، عندما أعفى الملك فهد 10 من أعضاء «هيئة كبار العلماء» بعد رفضهم التوقيع على بيان يدين مُطلقي ما عُرفت حينها بـ«مذكرة النصيحة»، في حادثة «كشفت عن قوة لدى الهيئة إن أرادت توظيفها إزاء تغوّل السلطة»، بحسب ما يرى الباحث في الشؤون السعودية، فؤاد إبراهيم.
تبدأ السلطات في أيلول محاكمات سرية لـ8 من أبرز المعتقلين


حساسية ابن سلمان الزائدة إزاء أي وجهة نظر تخالف «رؤيته» لـ«إصلاح» السعودية، لا تقتصر على المشايخ والعلماء الذين تتركّز انتقاداتهم على مظاهر التغيير التي لم تعتدها المملكة (الاختلاط، الحفلات... إلخ)، بل تبرز كذلك حيال الخبراء الاقتصاديين الذين قد تُسوِّل لهم أنفسهم انتقاد أي إجراء تتخذه السلطات. نموذج من هؤلاء، المستشار السابق في شركة «أرامكو»، برجس البرجس، الذي تأكد اعتقاله يوم السبت الماضي، وفقاً لما أورده أيضاً حساب «معتقلي الرأي» على «تويتر». المفارقة أن البرجس يُعدّ واحداً من أبرز المسوّقين لـ«رؤية» ولي العهد الاقتصادية، وسبق له أن التقى الأمير الشاب عدة مرات، ولم يبدر منه ما ينمّ عن معارضة لعهده أو سياساته، لكن الخبير الاقتصادي تجرّأ في تغريدات على «تويتر» على انتقاد ارتفاع فواتير الكهرباء في المملكة، منبهاً إلى أن الحد الأقصى الذي ينبغي أن يصل إليه أي ارتفاع في 2018 هو 420 ريالاً مهما كان حجم العائلة. «نصيحة» كانت كفيلة بجرّ البرجس إلى جانب من يقبعون حالياً خلف قضبان السجون، في تطور رأى فيه معارضون دليلاً على أن «ابن سلمان فقد توازنه، ويتصرّف من وحي هواجسه الواقعية والمتخيلة».
هذه التصرفات، التي تنمّ عن دخول ولي العهد «مرحلة متقدمة من الهلوسة باعتقال كلّ من صدر عنه موقف نقدي»، لن يكون آخرها على ما يبدو العزم على إجراء محاكمات سرية لثمانية من أبرز الشخصيات المعتقلة، وهم: سلمان العودة، عوض القرني، محمد موسى الشريف، إبراهيم المديميغ، عادل باناعمة، عصام الزامل، خالد العلكمي، وفهد السنيدي. وطبقاً لحساب «معتقلي الرأي»، ستبدأ هذه المحاكمات في أيلول/ سبتمبر، علماً بأن السلطات عمدت إلى منع الزيارات عن جميع المعتقلين منذ مطلع الشهر الجاري وحتى منتصف الشهر المقبل. وفي انتظار بدء جلسات المحاكمات السرية، انطلقت على مواقع التواصل الاجتماعي حملة واسعة للمطالبة بالإفراج عن المعتقلين، أو في الحد الأدنى إخضاعهم لمحاكمة علنية «يُسمح فيها بحضور ممثلين عن الهيئات الحقوقية العالمية، والصحافة العالمية».
مطلب تستبين استحالة تحقّقه من واقع الخلاف الأخير مع كندا، الذي أثبت مجدداً أن الحكومة «تشتّت انتباهها ما بين خطايا السياسة الداخلية والخارجية، بدلاً من أن تعطي الأولوية للإصلاحات الاقتصادية»، بحسب ما تنبّه إليه وكالة «بلومبرغ» في آخر تقاريرها. ترى الوكالة أن ابن سلمان أدخل بلاده في مشاكل كثيرة (من بينها حملات الاعتقالات)، جعلت من الصعب على المستثمرين تصديق وعوده بالإصلاح الاقتصادي، لذا يقوم هؤلاء بتحويل أموالهم إلى أمكنة أخرى، في ظاهرة تصفها «بلومبرغ» بأنها «خطيرة بالفعل»، خصوصاً أنها ليست الوحيدة في مشهدية «كئيبة»، تلخّصها الوكالة بما يأتي: إنفاق حكومي متسارع، نمو بطيء، مستثمرون خائفون، وإنتاجية سيئة للغاية.