ليس حدثاً استثنائياً أن يكون جيش العدو الإسرائيلي جاهزاً للحرب، أو أن يعمل على بناء هذه الجاهزية وتطويرها، وهو الذي حافظ على تفوقه النوعي منذ إقامة الدولة عام 1948 وخاض حروباً وعمليات عسكرية ضد الدول العربية المحيطة بفلسطين المحتلة، بل الحدث هو الحرص على تظهير ذلك في وسائل الإعلام الإسرائيلية، وفي هذا التوقيت بالذات، بعدما تهشمت هذه الصورة على يد مفوض شكاوى الجنود يتسحاك بريك، والأمين العام لحزب الله السيد حسن نصر الله.لم تكن خطط تطوير الجاهزية الإسرائيلية في العقد الأخير مجرد تلبية طبيعية لمتطلبات تطور الزمن، بل كانت وفق وتيرة متسارعة فرضها تطور معادلات القوة بفعل تطور قدرات محور المقاومة، وتعاظم المخاوف في ضوء نتائج الحرب السورية، وهو ما رأت فيها تل أبيب تطوراً للتهديد على أمنها القومي، وتأسيساً لمزيد من التقييد لدورها الوظيفي في المنطقة. بحكم هذه المستجدات في الإقليم، وجدت إسرائيل أن جيشها وفق نسخته السابقة لم يعد قادراً على تلبية المهمة (محطة الاختبار الأولى التي كشفت هذه الحقيقة كانت حرب 2006)، وهو ما فرض عليها إعادة بنائه وفق مفاهيم جديدة طاولت المجالات كافة. ومن أهم المفاهيم التي رسخت في الوجدان الإسرائيلي العام، جمهوراً وقيادة، أن الداخل الإسرائيلي بات جزءاً لا يتجزأ من ساحات القتال بكل ما تعنيه هذه الكلمة من معانٍ وتداعيات، والثانية أن طبيعة ومرتكزات معادلات القوة الجديدة سلبت جيش العدو القدرة على الحسم بمفهومه التقليدي.
انعكس ذلك إدراكاً عميقاً بأن تطور قدرات الجيش لم يلغِ حقيقة أن خياراته باتت ضيقة جداً، خصوصاً أن نتائج أي حرب محكومة بمعادلة يشكل جيش العدو واحداً منها، وهو ما أعاد تسليط الضوء عليه من جديد المرشح لرئاسة أركان الجيش، اللواء يائير غولان، قبل يومين خلال المؤتمر الـ18 الذي عقده «المعهد للسياسات ضد الإرهاب» في المركز المتعدد المجالات في مدينة هرتسيليا: «كل من خبِر القتال يدرك أنه ليس بالإمكان الانتصار بالحروب بواسطة المعلومات الاستخبارية والنيران الدقيقة فقط. هذه فرضية إشكالية، ولأن التقنية لا تنتصر في الحروب، فإن المعلومات الاستخبارية والنيران الدقيقة لا تنتصر بالحروب».
مع ذلك، كثفت إسرائيل خطط الجاهزية في ضوء المستجدات التي تتجه نحو صيغة مغايرة بالمطلق لما كانت تطمح وتخطط له. على هذه الخلفية، وجدت إسرائيل نفسها أمام تحدي تطوير جاهزية الجيش، لكن السؤال: أي حرب تلك التي هو بالفعل جاهز لها، وهل الأهداف قابلة للتحقق، وما كلفتها وتداعيات الحرب على المكانة الإستراتيجية والمشهد الإقليمي؟
في كل الأحوال ليس مفاجئاً أن تقدم قيادة الجيش صورة عن جاهزيتها إلى المستوى السياسي، إنما الجديد والأكثر حضوراً لدى العسكري والسياسي في تل أبيب أن الأطراف المقابلة باتت أكثر جاهزية للرد والدفاع والردع. وثبت طوال السنوات الماضية أن صناع القرار الإسرائيليين يدركون هذه الحقيقة الأمر الذي حال دون تهورهم بمغامرات عسكرية واسعة.
أن يكون جيش العدو على جاهزية ما لشن حروب شيء، وتظهير ذلك في وسائل الإعلام شيء آخر، وهو ما يدفع إلى التساؤل عن خلفيات هذه الخطوة «الإعلامية»، وعلاقتها بالسياقات الداخلية والخارجية. في الداخل، بدا واضحاً في التقارير التي تناولت الخبر أن «هذه الخطوة الاستثنائية تأتي رداً على الانتقادات التي وجهها مفوض شكاوى الجنود، يتسحاك بريك، أخيراً، في شأن مستوى الجاهزية للحرب». ووصف بريك ذلك بالقول إن «صورة الوضع مقلقة بما يتصل بجاهزية الجيش للحرب، وجهاز الخدمة النظامية، والقدرة على مواجهة التحديات الحالية». وهو التقرير الذي استند إليه السيد نصر الله في مواقفه التي أطلقها بمناسبة التحرير الثاني، وأثار حينذاك أصداء واسعة في الداخل الإسرائيلي سياسياً وإعلامياً.
يكشف هذا الترابط، بين وثيقة ايزنكوت ومفاعيل تقرير بريك، أن الكشف الإعلامي عن تقديم التصور أمام وزراء المجلس المصغر وأعضاء لجنة الخارجية والأمن التابعة للكنيست يهدف إلى محاولة تغيير الانطباع في الداخل والخارج إزاء جاهزية الجيش، وطمأنة الجمهور حول مستوى جاهزية الجيش وقدرته على توفير الأمن. وينبع اهتمام المؤسسة العسكرية بصورتها ليس فقط لتبديل الصورة إزاء الداخل، بل في مواجهة أعدائها وتحديداً في ظل المحطة المفصلية التي تمر بها المنطقة والتحديات الماثلة، خصوصاً أنها ترتكز في جانب أساسي منها على قوة ردع إسرائيل المستمدة من صورتها واستعداداتها في وعي أعدائها.
لذلك لم يقلّ الاهتمام بمضمون الوثيقة عن الاهتمام بتصديرها في الإعلام وتأكيد أن إيزنكوت شدد للمستوى السياسي أن الجيش في حالة جاهزية عالية للحرب وكل سيناريوات التهديد، وأنه «جاهز لتنفيذ أي مهمة تطلب منه»، مضيفاً أنه يمتلك «قدرات استخبارية وجوية عالية، وقدرات برية وتجربة عملانية غنية تختبر يومياً» في كل الجبهات. مع ذلك، لفت إلى أن جاهزية الجيش ستظل «منقوصة دائماً» لوجود فجوات في سياق إدارة الأخطار وسلم الأولويات.
تبقى حقيقة أن إيزنكوت، الذي يفترض أن تنتهي ولايته نهاية السنة الحالية، معنيٌّ بأن يسجل في تاريخه الشخصي نجاحه في رفع مستوى جاهزية الجيش ليكون جاهزاً لتنفيذ أي مهمة يلقيها عليه المستوى السياسي. في المقابل الحقيقة التي لا يستطيع أي من صناع القرار تجاوزها هي أن إسرائيل، التي كانت تتكئ إليها الولايات المتحدة لتغيير موازين القوى الإقليمية وتعزيز نفوذها في المنطقة، باتت تحتاج إلى تدخل الأخيرة لدفع التهديد عنها، والحؤول دون مزيد من تدهور مكانتها الاستراتيجية.