غزة | مضى على حصار غزة 12 عاماً لم يسمح خلالها العدو الإسرائيلي بعبور المولدات الكبيرة للطاقة الكهربائية إلا في العامين الأخيرين. كانت هذه المولدات محصورة في المؤسسات الكبيرة والمستشفيات وبعض الأبنية السكنية الكبيرة، وكان التضييق على دخولها مرتبطاً بإمكانية استخدام المقاومة لها في حفر الأنفاق، وثانياً مواصلة التضييق على عموم الغزيين، لكنّ دخولها لم يحلّ مشكلاتهم، بل فتح باباً واسعاً للابتزاز والاستغلال... ولإطالة أزمة الكهرباء.انخفضت منذ سنتين ظاهرة «غابة المولدات» الكهربائية الصغيرة المنتشرة في قطاع غزة، بعدما سمحت إسرائيل بدخول مولدات كبيرة الحجم والطاقة، وذلك باشتراط وجود تنسيق خاص لإدخالها يشمل وضع نظام GPS عليها. كان المشهد في سنوات الحصار حالة من التلوث والضوضاء صادرة عن كل بيت أو شقة تقريباً بسبب المولدات التي تعطي كهرباء بطاقة 2 إلى 10 أمبيرات، وكانت تعمل بالغالب على البنزين، الأكثر تكلفة، وأحياناً على الغاز المنزلي أو السولار (المازوت). لكن بدلاً من أن يكون البديل (المولدات الكبيرة) عاملاً لتنظيم هذه الضوضاء وتخفيفها، فإنه تحوّل إلى جانب آخر من الأزمة، خاصة مع تصاعد ساعات انقطاع التيار الأساسي إلى أكثر من 16 ساعة يومياً، الأمر الذي فتح باباً للاستغلال وحتى الابتزاز، في مشهد يتكامل فيه الحصار وسيطرة أصحاب المصالح.
يؤكد كثيرون، من مستويات اجتماعية مختلفة، أن أصحاب هذه المولدات «مسنودون» تنظيمياً من جهات نافذة، وهم مثل القطاعات الأخرى باتوا يحتكرون هذا المجال. يكفي مثلاً معرفة أنه من شباط/ فبراير الماضي حتى آب/ أغسطس الجاري كانت 80% من الشاحنات المحمّلة بالوقود والعابرة من بوابة صلاح الدين التجارية مع مصر (ضمن معبر رفح) مخصصة للمحطات والسولار الذي يشغّل هذه المولدات، في حين أن 20% فقط منها مخصصة لمحطة توليد الكهرباء الأساسية والوحيدة في غزة، وفق أرقام حصلت عليها «الأخبار» من مصادر في المعبر.
ثمة اتهامات لشركة الكهرباء الأساسية ببيع الكهرباء لأصحاب المولدات


وفي ظل أن المولدات الصغيرة ذات أعطال كبيرة لأنها غير مخصصة للعمل ساعات طويلة، ولا تستطيع توفير قدرة كهربائية لتشغيل أدوات كثيرة في البيت، بات الاشتراك في المولدات الكبيرة حلاً شبه إجباري، وهو ما يدفع القائمين على الأخيرة إلى رفع الأسعار، ليبيعوا الكيلوواط الواحد ما بين 4.5 - 6 شيقل (1 دولار أميركي = 3.6 شيقل إسرائيلي)، في حين أن سعر تكلفة الكيلو من شركة التوليد الأساسية يبلغ نصف شيقل فقط، ما يعني ثمانية أضعاف التكلفة! وإن لم يكن المولد الكبير ملكاً لأحد التجار، فإن الجيران في الحيّ يكونون قد تشاركوا في جمع مبلغ لشراء مولد كبير، وكذلك يتحملون تكلفة الإمدادات والوقود، وهؤلاء مثلاً يستطيعون أن يحصلوا على سعر منطقي أكثر للاشتراك. وثمة كثيرون مجبرون على الاشتراك بهذه المولدات إن كان لديهم مرضى في البيت، خاصة الذين يحتاجون أجهزة طبية. وتبلغ تكلفة الاشتراك الأساسية قبل عدّ كيلوات الكهرباء نحو 250 شيقل (69 دولاراً) كرسوم اشتراك (تدفع لمرة واحدة)، وحدّ أدنى للسحب مبلغ 50 شيقل (14 دولاراً).

ثمة اتهامات لشركة الكهرباء الأساسية ببيع الكهرباء لأصحاب المولدات


ويعود تفاقم أزمة الكهرباء في غزة إلى عام 2006 عندما قصفت إسرائيل محطة توليد الكهرباء، ثم في آذار/ مارس 2014 برزت أزمة الضريبة المفروضة على وقود محطة التوليد جراء إصرار حكومة «الوفاق» في رام الله على تحصيل هذه الضريبة، وليس أخيراً العقوبات التي فرضتها السلطة، التي كانت قد أبلغت بدورها في نهاية نيسان/ أبريل 2017 بأنها ستتوقف عن سداد ثمن الكهرباء الذي تمدّ به غزة عبر عشرة خطوط تنقل 125 ميغاوات، وهو ما يعادل نحو 30% من احتياجات القطاع، لكن إسرائيل رفضت القطع الكامل، واكتفت بخفض الكمية آنذاك، قبل أن تعيدها إلى وضعها السابق بعد شهور.
تعقيباً على هذه الظاهرة، يقول رئيس تحرير صحيفة «الاقتصادية» في غزة، محمد أبو جياب، إن الأسعار التي تباع بها الكهرباء المنتجة من المولدات «مبالغ فيها»، مقدِّراً أن 2 إلى 2.5 شيقل لكل كيلوواط هو السعر المقبول الذي يكفل للمستثمرين هامش ربح مقبولاً، «وإلا فإن ما يحدث لا يسمى سوى ابتزاز». ويضيف: «لا رقابة على المولدات (في ظل حالة التعويم الحكومي)، إذ حين نتصل بأحد المسؤولين، يقول لنا: يخلف عليهم بيساعدونا»، في إشارة إلى أصحاب المولدات.
يزيد أبو جياب على ذلك بأن «شركة الكهرباء ينتابها الكثير من شبهات الفساد والفشل الإداري على مستوى عدالة التوزيع في المناطق، وهو ما يقع في مصلحة تجار الكهرباء»، لكنه في الوقت نفسه يربط المشكلة المستجدة بأصول أزمة الكهرباء، «بدءاً من محدودية مصادر الطاقة في غزة وانتهاءً بمحطة توليد شبه متوقفة، وإن عملت فإنها تعمل بطاقة توربين واحد لا يتجاوز 25 ميغاوات، وخطوط مصرية متوقفة كانت قدرتها من 25 إلى 27 ميغاوات بالإضافة إلى خطوط إسرائيلية تبلغ مجملها 120 ميغاوات... فيما الاحتياج الكلي للقطاع هو 665 ميغاوات». ووفق المعلومات، تراوح احتياجات غزة في الأيام العادية ما بين 450 إلى 500 ميغاوات، لكن تزداد هذه الاحتياجات في ذروة فصلي الشتاء والصيف لتصل إلى 650، ووفق الموارد الموفّرة حالياً، تكون نسبة العجز تقريباً 50%.

حملة تشويه ضدنا
يقول المسؤول عن أحد مشروعات المولدات، إنه لا علاقة بينهم وبين شركة الكهرباء، وفي حال ضَبط أي نوع من التعدي على الشبكة العامة، يُلزَم المعتدي بدفع غرامة. أما في ما يتعلق بسعر الكيلوواط، فيقول: «40% من مصاريف التشغيل لدينا تذهب إلى فواقد الكهرباء (مسافة السلك الكهربائي التي لا تكون على حساب المشترك)، وهنا يكلفنا الكيلو 3 شيقل ونبيعه بـ 4 اعتماداً على سعر ليتر السولار. ولدينا أيضاً مصاريف صيانة، فكل مولد يحتاج 70 ألف شيقل إذا تآكل الحديد داخله». ويضيف: «80% من أصحاب المولدات يعملون بنوع من الرقابة الذاتية، فيوفرون خدمة ممتازة وشبكة آمنة من الخطوط، لكن للأسف هناك حملة تشويه ضدنا».
وبشأن بيع الشركة الكهرباء لأصحاب المولدات، لم ينكر هذا المستثمر «وجود أصحاب مولدات يستفيدون من الشبكة العامة ويبيعون الكهرباء على أنها كهرباء مولد... لكنها حالات قليلة»، متابعاً: «80% من أرباحنا تذهب لمصلحة محطات البترول كثمن للسولار المصري والإسرائيلي (الليتر الواحد من المصدرين بالثمن نفسه) الذي نستخدمه... أصلاً سعر المولد الواحد يصل إلى 30 ألف دولار». من جهة أخرى، يفيد صاحب مولد آخر بأنهم يدفعون ضرائب للبلديات إذا كان مكان وضع المولد ملكاً لها، نافياً أن تكون البلديات أو أي جهات حكومية تلزمهم بدفع ضرائب لها، ومشيراً في الوقت نفسه إلى أن اعتمادهم الآن صار أكثر على الوقود المصري، الذي يبلغ سعر ليتر السولار منه 4.8 شيقل (1.33 دولار).



مشروع رابح أم خاسر؟
كأي مشروع، لا تضمن هذه المولدات في غزة لصاحبها هامش ربح مضمون ومستمر، بل أحياناً تتعرض هذه المشاريع لخسارة قد تصل شدتها إلى أن يُزَج بصاحبها في السجن على قضايا ذمم مالية، والحالات في هذا الصدد لا بأس بها، ما دفع عدداً كبيراً منهم إلى عرض مولداتهم للبيع. يعود ذلك إلى ارتفاع تكاليف إصلاح الأعطال التي تصيب المولد في ظل غياب قطع الغيار اللازمة، أو عجز المالك عن دفع المستحقات الشهرية لصاحب محطة البترول. وربما نجمت الخسارة بسبب شكاوى المواطنين التي تصل إلى البلديات التي تلزم بعض أصحاب المولدات بتغيير أماكنهم بسبب الضوضاء والتلوث، وهو ما يترتب عنه خسائر مالية بسبب إعادة تصميم المكان الخاص بالمولد، وأيضاً توزيع خطوط الإمداد. لذلك، تبقى الحالة الوحيدة التي يمكن صاحبَ المولد فيها أن يضمن ربحه، أن يكون مسنوداً تنظيمياً وعلى علاقة بمتنفذين في حكومة غزة السابقة، أو أن يكون المشروع مدعوماً من هذه الحكومة، فيحصلوا على السولار من المحطة بنصف السعر الذي يباع لبقية أصحاب المولدات، ما يضمن لهم هامش ربح وخسارة أقل. كذلك إن أياً من هؤلاء، يقول أصحاب مولدات، لا يخشون تعرضهم للسجن في ظل وجود وساطات قوية تساندهم، وهذه الوساطات إما تحصل على كهرباء مجانية منهم، وإما تستفيد منهم لمدّ أقربائهم بالكهرباء.