قال الطرفان السوريان أعلى ما يمكن قوله في افتتاح مؤتمر «جنيف 2». أفرغ وزير الخارجية وليد المعلم كل ما عنده دفعة واحدة، وكذلك فعل أحمد الجربا، رئيس وفد «الائتلاف» المعارض. كسب المعلم الجولة الاولى. جذب كل الإعلام، ليس بسبب فتحه النار ضد المعارضة وداعميها وضد أربع ممالك تدعم الارهاب، وضد حكومة رجب طيب أردوغان، بل لأنه عاد يمارس خبرته الدبلوماسية العريقة.
ضرب عرض الحائط بطلب الامين العام للامم المتحدة في شأن الوقت المخصص للكلمة، أي 10 دقائق. تحدث 34 دقيقة بالتمام. لم تفلح أصوات الجرس ولا مقاطعات بان كي مون في ثنيه عن إكمال كلمته حتى نهايتها. لعله انتقم، على طريقته، من بان كي مون لسحبه دعوة إيران. نظر الى وزير الخارجية الاميركي قائلاً بلغته الانكليزية الجيدة ما معناه: يا سيد كيري، لا أحد يستطيع نزع الشرعية عن الرئيس.
من لم يسمع المعلّم جيداً، تولّى وزير الاعلام عمران الزعبي بقية الرسالة. اقتحم (ليس في الكلمة مغالاة) قاعة الاعلاميين حيث يوجد أكثر من 800 صحافي عربي وعالمي. أكّد أن «الأسد لن يرحل». هرولت الكاميرات وحاملوها صوب الوزير. عشرات منها تحلّقت حوله. انهال الجميع عليه بالاسئلة. قال كلمته وخرج. قالها وكأنه يردّ على من طالب في الجلسة الافتتاحية برحيل الرئيس. كان الجربا في طليعة هؤلاء. أكّد أن «أي حديث عن بقاء الاسد في أي صورة من الصور في السلطة هو خروج لجنيف 2 عن مساره».
لا يريد الجربا، ربما، الاعتراف بأن «جنيف 2» خرج عن مساره بمجرد انعقاده. القضية السورية بمجملها خرجت عن مسارها. جرت مياه كثيرة تحت الطاولات. لم يعد رحيل الاسد شرطاً أول لأي مفاوضات مقبلة». ربما لم يعد رحيله أصلاً شرطاً أول ولا أخيراً. القطار الاميركي الروسي ذاهب في اتجاه آخر تماماً.
يتحلق بضعة صحافيين حول مسؤول أميركي في قاعة الصحافة. يتحدث الدبلوماسي، من دون أن ترمش له عين، عن أن المعادلة قد تغيّرت. تحدّث كثيراً، وبشفافية تبدو كأنها مقصودة. قال ما مختصره: «موازين القوى العسكرية على الارض صارت لمصلحة النظام السوري، ونحن لا نريد التدخل عسكرياً لأسباب كثيرة تعرفونها. نحن والروس متفقون على معارضة قيام أي حكم إسلامي في سوريا. نحاول أن نوفّق بين مطلبنا برحيل الأسد وبين الحؤول دون دولة إسلامية». لا ينفي وجود اتصالات مع السلطة السورية. حين نسأله عن سبب عدم قيام أميركا باتصال مباشر مع النظام كما يفعل الأوروبيون تحت الطاولة، يبتسم ويجيب: «ومن قال لكم إنه ليست لدينا اتصالات؟ هل يجب أن نجاهر بذلك؟»... يبتسم مرة ثانية. يشرح أن المقاربتين الاميركية والسعودية تختلفان في بعض جوانبهما حيال الحل في سوريا.
ما لا يقوله الدبلوماسي الاميركي يشرحه وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف في لقائه مع الإعلاميين الروس القادمين معه الى مدينة مونترو السويسرية. لدى الدبلوماسي الروسي العريق تأكيد قاطع بأن الوفدين السوريين لن يغادرا جنيف قبل أسبوع. سيلتقي الطرفان من غد الجمعة حتى مساء الجمعة المقبل. سينظر أحدهما إلى الآخر من دون أن يتحاورا. التفاوض يجري فقط عبر المبعوث الدولي الأخضر الابراهيمي. أسبوع كامل من النقاش الذي يكسر الحواجز النفسية أولاً، ثم يدخل في صلب القضايا الملحة.
يحدد وزير الإعلام السوري السقف التفاوضي: لا ممرات إنسانية بل رفع لمستوى إدخال المساعدات بإشراف الدولة. لا إطلاق شاملاً لسراح الاسرى، بل تبادل لمعتقلين من الجانبين. لا وقف شاملاً لإطلاق النار، بل تفاهمات أمنية يتم من خلالها خروج الجيش والمسلحين من بعض مناطق الاشتباك لتدخل الشرطة السورية. والأهم: لا تنحّي للرئيس. يعرب سيرغي لافروف أمام الصحافيين الروس عن تفاؤل رغم الصعوبات. مثله يفعل الدبلوماسي الأميركي. يقول: «لقد أصبحنا عقلانيين بعد أن كنا نؤكد أن الأسد سيسقط خلال شهرين». يحاول وزير الخارجية الفرنسي لوران فابيوس التخفيف من وهج التفاؤل، من دون أن يلغيه. يوضح أمام الاعلاميين: «هناك أمل بالتوصل الى حل ولكنه ضئيل». يبدو قاطعاً في قضية واحدة: «لا حل عسكرياً للأزمة السورية».
يلملم الإعلاميون أمتعتهم وكاميراتهم من مونترو التي أضفت عليها الشمس أمس رونقاً خاصاً. يرتاحون اليوم، ليستأنفوا غداً مع المفاوضين السوريين والدول الاخرى المفاوضات في جنيف. ثمة كلام جدي بين الروس والاميركيين عن صيغة سياسية تكون بديلة لـ«جنيف 1». التفاوض في أوجه. شد الحبال في أوجه. النجاح محتمل والفشل ممكن. أمر واحد يبدو مؤكداً في الجولة الاولى للمفاوضات: النظام السوري يأتي أقوى بكثير مما كانت عليه حاله في «جنيف 1» قبل عام ونصف، والمعارضة تأتي مفكّكة أكثر بكثير مما كانت عليه حالها قبل عام ونصف... من غير المنتظر، مطلقاً، أن يقبل النظام التعاطي مع المفاوضات إذاً من موقع الند للندّ. هل سيقبل الائتلاف وداعموه؟ يبدو أن أميركا بدأت تقبل هذا الواقع. هكذا يبدو من الدبلوماسي الاميركي وهو يبتسم.