بورتريه | هو الجدّي، الأنيق ذو الحضور القوي والطباع الحادّة، يرسي قاعدة أولى لكلّ من يريد التعامل معه: «لا تُملِ عليّ الأوامر». القاعدة تلك ثابتة، فهي تأتي من اقتناعه بأنه، في عمله، هو روسيا ولا أحد يأمر روسيا بل الكل يتفاوض معها.لكن، في الوقت نفسه، قد ترى ذاك «الرجل الفولاذي» واقفاً أمام مقهى بوشكين في موسكو يحمل باقة ورود صفراء يقدمها إلى نظيرته الوزيرة النمساوية قبل لقائهما الرسمي. وقد تسمعه يمازح الصحافيين في المؤتمرات الدولية ويتغزّل ــ باحترام ــ بجمال إحدى المراسلات قبل اعتلائه المنصّة. قد تقع على أبيات شعر من تأليفه وقد يلقي خلال اجتماع رسمي جدّي بعض النكات غير المتوقعة تثير ضحك الجميع... فيبتسم أخيراً.
وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف (مواليد ١٩٥٠)، هو تلميذ المدرسة السوفياتية في الدبلوماسية: جدّية قصوى في العمل ونُبل في التصرّف ومصدر إزعاج لكل مَن يحاول إخضاع الإرادة الروسية. يقول عنه الروس إنه «يقدّس» عمله كوزير، وهم يقدّرون له ذلك، ويرون أنه «أعاد للدبلوماسية الروسية مكانتها في العالم». هو «الدبلوماسي القوي، الحذق والمتنبّه دائماً»، هو «شخص يمكن الاعتماد عليه»، هو «أحد أكثر وزراء الخارجية اطلاعاً ومهنية واحتراماً»، هو «المفاوض الممتاز»، يقول عنه معظم من عملوا معه من دبلوماسيين وسياسيين أجانب. وهو، «جدار الصدّ الدائم بوجه كل محاولة أميركية لفرض قرار أو المضي بقيادة أحادية نحو أمر ما»، يقول عنه دبلوماسيون أميركيون. لافروف، ذو الأصول الأرمنية (والده أرمني ووالدته روسية)، كان رجل موسكو في الأمم المتحدة خلال الحرب الباردة وفي حربي كوسوفو والعراق.

يقول عنه مصدر في الأمم المتحدة إنه «أقوى شخصية في مجلس الأمن خلال فترة عمله فيه، لديه قدرة مبهرة على توضيح الأمور وتغيير وجهة النقاش متى أراد» (بي. بي. سي.).
والدة لافروف، الموظفة السابقة في وزارة الاقتصاد الخارجي السوفياتية، لم تكن مخطئة إذاً عندما طلبت من ابنها أن يتخصص في العلاقات الدولية بدل الفيزياء. تخرّج لافروف بجدارة عام ١٩٧٢ في أحد أهمّ معاهد الاتحاد السوفياتي حينها، «معهد موسكو للعلاقات الدولية». ووفق تخصصه، عيّن في السنة نفسها في سفارة الاتحاد السوفياتي في سريلانكا التي كانت تنشط سياسياً واقتصادياً مع السوفيات. وبعد أربع سنوات، عاد لافروف الى موسكو ليعمل داخل وزارة الخارجية السوفياتية، ومنذ ذلك الوقت (١٩٧٦) بقي في «الخارجية» حتى بعد أن ألغيت الوزارة مع انتهاء العهد السوفياتي. «الناشط الشيوعي» كما يصفه بعض زملائه من أيام الدراسة، لم يكن دبلوماسياً عادياً، فقد برز بجديّته في العمل وحنكته منذ بداية مشواره في السلك.
وبين عامي ١٩٨١ ــ ١٩٨٨ شغل منصب أول سكرتير للبعثة السوفياتية الدائمة في الأمم المتحدة في نيويورك، وأول مستشار لها. تمرّس لافروف خلال ٧ سنوات في العمل الدبلوماسي داخل أروقة الأمم المتحدة، قبل أن يعود مرة جديدة الى الوزارة في موسكو. سقط الاتحاد السوفياتي وبقي لافروف في الوزارة. بات اسمها في بداية التسعينيات «وزارة خارجية روسيا الفدرالية»، وهو بات يشغل منصب نائب وزير الخارجية الروسي (١٩٩٢ــ ١٩٩٤). وفي فترة تخبّط البلاد في أزمات سياسية واقتصادية وانتشار الفساد، فضّل لافروف العودة الى الأمم المتحدة ليمثّل روسيا ومصالحها هناك. وها هو يعود الى مقرّ المجتمع الدولي في نيويورك لمدة عشر سنوات (١٩٩٤ ــ ٢٠٠٤) قبل أن يستدعيه الرئيس فلاديمير بوتين ليشغل منصب وزير خارجية في حكومته.

العلاقة مع بوتين

يُحكى أنه عندما عرض الرئيس بوتين على لافروف تولّي منصب وزير الخارجية عام ٢٠٠٤ كان للافروف طلب واحد: «أريد إجازة سنوية من دون شروط أمنية، أذهب خلالها الى سيبيريا لممارسة هواية الرافتينغ مع الأصدقاء»، الهواية التي يمارسها منذ ٣٠ سنة. فكان له ما طلب وأكثر. لم يأت اختيار بوتين دبلوماسياً متمرّساً في الأمم المتحدة لقيادة سياسته الخارجية عن عبث. فالرئيس الروسي كان يريد أن يعيد تثبيت أقدام روسيا في معقل القرارات الدولية، ويريد لسياسته أن تلقى صدى جدّياً على المنبر الأممي، فتستعيد بلاده دورها الفاعل.
وكان له ما أراد من خلال لافروف. في البداية، افترض كثيرون أن العلاقة بين مسؤولَين سوفياتيين سابقين يتمتعان بشخصيتين قويتين مثل بوتين ولافروف لن تنجح، وأن بوتين سيحوّل لافروف الى مجرد «ساعي بريد» ينقل رسائله الى زعماء العالم. وتنبّأ آخرون بمشاكل ستنشب بين الرئيس ووزيره ستعجّل في مغادرة لافروف منصبه، خصوصاً أنه لا ينتمي الى حلقة المقرّبين من بوتين. لكن الذين يعرفون جيداً وزير الخارجية الروسي قالوا إنه «ليس من النوع الذي يحتاج الى إملاءات يومية في عمله، ولن يتحمّل ذلك أصلاً، حتى من رئيس جمهوريته». لم يتحوّل لافروف إلى «ساعي بريد» خلال السنوات العشر على رأس الخارجية. بل على العكس، التقى مع بوتين في كره الغطرسة الأميركية ورفض الإملاءات من أي كان، انطلاقاً من إيمان مشترك بعظمة الوطن الأم.

لا تُملِ عليّ الأوامر

عام ٢٠٠٣، أصدر الأمين العام للأمم المتحدة كوفي أنان قراراً يمنع بموجبه التدخين داخل مبنى المنظمة في نيويورك. انصاع الجميع ما عدا لافروفــ. المدخّن بشراهة ــ الذي كان يرأس البعثة الروسية الدائمة في الأمم المتحدة. رفض الدبلوماسي الروسي القرار. «يمكن أنان أن يملي أوامره على موظفيه لا على أعضاء البعثات الدبلوماسية»، قال لافروف للإعلام حينها. وأضاف «مبنى المنظمة هو ملك جميع الدول الأعضاء، والأمين العام ليس إلا مديراً معيّناً فيها».
تلك الطباع الحادّة تنتقل مع لافروف أحياناً في بعض لقاءاته الرسمية ومفاوضاته، خصوصاً إذا كان المحاور يفتقد المهنية الدبلوماسية. فمثلاً، في أيار عام ٢٠٠٧، حاولت وزيرة الخارجية الأميركية كوندوليزا رايس في مؤتمر صحافي أن تلعب على كلام الرئيس الروسي بوتين حول الدرع الصاروخية الأميركية المنشورة في أوروبا، فما كان من لافروف إلا أن تدخّل فوراً وقال: «آمل ألا يضطرّ أحد إلى إثبات»، ما قاله الرئيس بوتين أنه بإمكان الصواريخ الروسية أن تدمّر أي منظومة دفاعية قد تبنيها الولايات المتحدة!
العلاقات مع كوندي لم تكن سلسة. وما بدأ يتصحح مع هيلاري كلينتون في بداية عهدها سرعان ما ساء أيضاً، خصوصاً في الفترة الأخيرة بين ٢٠٠٩ و٢٠١٣. ينقل بعض الدبلوماسيين عن لافروف أنه يحترم المهنيين في عملهم ويرى أن العمل مع غير المهنيين «مملّ»، خصوصاً في الدبلوماسية. المراقبون يقولون إن براعته ولطفه يظهران إذا كان من يفاوضه في الجانب الآخر مهنياً جداً ويتقن عمله. ويؤكد البعض أن هذه هي الحال مع وزير الخارجية الأميركي الحالي جون كيري، الذي لا تزال تجمعه به علاقة جيدة رغم كل التصعيد الذي مرّت به الأزمة السورية.

مقتضب، ثابت، صريح

من يراقب معظم تصريحات لافروف ومقابلاته منذ تولّيه منصبه الأخير يمكن أن يلاحظ ثباتاً في آرائه حول النقاط الأساسية للسياسة الخارجية. ومعظم إجاباته في المقابلات تكون مقتضبة، وقد يكتفي أحياناً بكلمة واحدة مثل «تماماً» أو «إطلاقاً» أو «قطعاً».
حول الديموقراطية وانتقاد بعض الدول الغربية للنموذج الروسي يقول لافروف في تصريح: «مع كامل احترامنا للقيم الديموقراطية العالمية، تفضّل روسيا أن تشقّ طريقها الخاص في العالم المتحضّر على أن تقبل بمسار مفروض من الخارج.
وهي لن تتخلّى أبداً، تحت أي ظرف، عن تقاليدها التاريخية». حول البنية الاجتماعية يؤمن لافروف بأن «توسّع الطبقة الوسطى هو الذي يضمن استقرار المجتمع والوطن». حول النووي الإيراني كرر لافروف مرات عديدة قبل الاتفاق الأميركي ــ الإيراني أنه ما من تهديد إيراني نووي، «ما من وكالة استخبارات في العالم استطاعت أن تثبت أن الإيرانيين يعملون على امتلاك سلاح نووي». كذلك صرّح لافروف بأن «أي هجوم على إيران، إن من قبل الإسرائيليين أو غيرهم، سيكون غلطة كبرى ونأمل ألا يحصل أبداً».
حول التدخل العسكري في ليبيا (عام ٢٠١١) قال لافروف إن «الدول الغربية ستتدخل الى جانب طرف واحد في صراع أهلي، وهذا سيزيد عدد الضحايا». لافروف الذي دعا الى فتح تحقيق حول مقتل الرئيس الليبي معمر القذافي قال أيضاً إن «تدخّل قوات حلف الأطلسي في ليبيا زاد عدد الضحايا المدنيين». ومنذ خريف عام ٢٠١١ أعلن لافروف أنه «لن نقبل بأن تتحول سوريا الى ليبيا ثانية». وفي مقابلة أخيرة مع «ذي واشنطن بوست» أكّد لافروف أن «روسيا ما زالت مقتنعة بأن المتمردين السوريين هم من شنّوا الهجوم الكيميائي على الغوطة الشرقية في آب ٢٠١٣»، و«نملك أدلّة عديدة على ذلك، وقد قدمتها لنظيري كيري، وهي موجودة في تحقيقات صحافيين ومنشورة على الإنترنت. «كل ما يهمّنا هو أن نبقي سوريا وأرضها غير مجزّأة، مع الحفاظ على سيادتها وعلمانيتها واستقلاليتها، وضمان حقوق كل المجموعات التي تعيش فيها»، يردّد لافروف منذ ٢٠١١.