بورتريه | هو «الخطيب المملّ» الذي قد يتكلم بوتيرة واحدة لساعات، وتلك عادة اكتسبها بعد أكثر من عشرين سنة في البرلمان كسيناتور. هو الوزير الذي لم تأبه وسائل الإعلام بحدث تنصيبه بقدر ما اهتمت بخبر رحيل سلفه هيلاري كلينتون عن الوزارة. هو من تتصدّر هفواته الدبلوماسية العناوين أكثر من مواقفه وإنجازاته. لكنه المحارب ذو النفس الطويل الذي يحاول كسب آخر معاركه تعطشاً لتحقيق إنجاز ما في حياته السياسية. عندما تطّلع على مراحل حياة جون كيري (مواليد ١٩٤٣)، تخاله شخصية وهمية من مسلسل أميركي. كل شيء أحاط بالرجل كان يشكل دائماً ديكوراً مناسباً للعب دور شخصية درامية أميركية. فهو الطفل ابن الثلاث سنوات الذي شاهد منزل جدّيه في فرنسا (والدته أميركية مولودة في باريس) محطّماً بعد الغزو النازي. «ما زالت تلك المشاهد محفورة في ذاكرتي»، يقول كيري بعد٧٠ سنة. وهو المراهق من عائلة ثرية الذي كان يمضي عطله الصيفية في فرنسا بعدما حررّها الأميركيون من النازيين، ويلتقي أبناء عائلات فرنسية ثرية أخرى؛ بعضهم أصبحوا سياسيين لاحقاً. والده الذي كان في سلاح الجوّ الأميركي تحوّل الى العمل الدبلوماسي، وجون دخل مدرسة «فيسيندن» في ماساتشوستس التي يرتادها أبناء الضبّاط الكبار والعائلات الثرية مثل آل كينيدي. جميع ظروف نشأة كيري كانت تمهّد لمستقبل سياسي ما على الطريقة الأميركية: مدارس نخبوية لطبقة معينة من العائلات، صداقات مع أبناء ضبّاط وسياسيين ورجال أعمال بارزين ومع صديقات من عائلات نافذة، والدٌ في السلك الدبلوماسي، عطل صيفية خارج الولايات المتحدة، تطوّع في حملة تيد كينيدي الأولى للانضمام الى الكونغرس، ثم جامعة «ييل» ودراسة العلوم السياسية. في «ييل» اكتشف كيري الأدرينالين الذي يمكن أن تضخّه تجربة ممارسة السياسة. ترأس «الحزب الليبرالي» وبات يخطب في الجماهير بمواضيع كانت رائجة في تلك الحقبة (الستينيات) مثل الحقوق المدنية. تلذذ الشاب حينها بخوض مناظرات حادّة مع أحزاب طالبية أخرى وتفوّق في مباريات النقاشات التي كانت تنظّم بين الجامعات على مستوى الوطن.
في خطاباته الجامعية، انتقد بشراسة السياسة الخارجية الأميركية وخصوصاً الحرب على فييتنام. لكن الشاب «المناضل» الذي رفع الشعارات الرائجة في عصره، انضمّ بعد سنوات قليلة الى البحرية الأميركية وشارك في الحرب الفييتنامية (بحثاً عن أدرينالين أكثر؟). تغيّر الديكور وكان لا بدّ لكيري من أن يلعب دور بطولة في «حلقة» الحرب. وهذا ما حصل، إذ خاض الجندي كيري مهمة بطولية قفز خلالها من زورقه العسكري وسط كمين في نهر «دوانغ كيو» وقتل أحد المقاومين من الفييتكونغ وسلبه سلاحه ... فاستحق عن ذلك وسام النجمة الفضية. في ألبوم صور كيري، واحدة يخطب فيها دفاعاً عن حقوق الإنسان، وأخرى بجانبها وهو يقلّد أوسمة عن «تأدية واجبه» في حرب فييتنام.
بعد فصل «الخدمة العسكرية» الذي استمر أربع سنوات بين ميادين القتال والقواعد العسكرية في الداخل الأميركي، أراد كيري اللحاق مجدداً بالركب المدني، فانضمّ الى حركة «مقاتلي حرب فييتنام المناهضين للحرب»، وهي حركة كبيرة ضمّت حوالى ٢٠ ألف منتسب. خطب في مؤتمرات مناهضة للحرب مجدداً، وشارك في تظاهرات رمى خلالها مع المتظاهرين الأوسمة العسكرية، وأدلى بأولى شهاداته أمام الكونغرس حول أسباب معاداته للحرب التي شارك فيها. تحوّل في بداية السبعينيات الى ناشط فعلي ضد حرب فييتنام وانضمّ الى منظمات عرفت براديكاليتها في هذا الموضوع (بلغ الأدرينالين ذروته عندما أوقفته الشرطة مع ٤٠٠ متظاهر آخرين عام ١٩٧١). حان وقت تغيير الديكور، قرر التحوّل الى السياسة. فهو، راكم علوماً وتجارب ومعارف وثروة كافية للدخول الى المعترك السياسي. خسر معركته الأولى في الدخول الى مجلس النواب، فعاد الى الجامعة مجدداً ودرس الحقوق، ليكون بذلك قد امتلك كامل «عدّة» أي خطوة مقبلة في مجال السياسة. وبعد محاولة أخرى فاشلة للفوز بمقعد في البرلمان، لم يستسلم، فترشّح مجدداً وفاز بمقعد ديموقراطي عن ماساتشوستس، ونصّب سيناتور عام ١٩٨٥. أمضى ٢٨ سنة في مجلس النواب الأميركي (١٩٨٥ ـ ٢٠١٣)، تمرّس في الحياة السياسية ودخل كواليس الحروب والصفقات والانقلابات.

وبرز اسمه داخل المجلس، إذ ساهم بالكشف عن فضائح فساد وتمويل مجموعات مسلّحة بشكل مخالف للقوانين وطالت سياسيين وعسكريين أميركيين. ومن أبرز القضايا التي شارك فيها، ثم كشف بعض فضائحها: قضية «إيران ــ كونترا» (1986). ثم بدأ حلم الرئاسة يدغدغ جدّياً أحد أثرى نوّاب المجلس (بعد وفاة زوجته الأولى، تزوج كيري أرملة ووريثة السيناتور الجمهوري هيينز صاحب إمبراطورية هينز الصناعية).
لا بدّ أن شخصيّتي «المناضل» و«المحارب» ساعدتا كيري في مثابرته على خوض المعارك داخل حزبه ومع خصومه الجمهوريين. لكن العامل الداعم الأساسي هو أنه «كان يملك الوقت والمال» كي يكمل طريقه حتى النهاية. و«النهاية» كانت عام ٢٠٠٤ عندما ترشّح للرئاسة بوجه جورج والكر بوش، وخسر المعركة.
يقول بعض المقرّبين من الوزير الأميركي «تلك كانت ضربة قاضية. جون قبل خسارة ٢٠٠٤ غير جون ما بعدها». كيري بنفسه يعترف في مقابلة صحافية بأن «ما من شيء يمكن أن تخسره بعد خسارة الرئاسة». حتى جاء منصب وزير الخارجية في حكومة باراك أوباما فتلقّفه كيري وهو يدرك أنه ما كان ليصل إليه لولا إبعاد سوزان رايس مرشحة الرئيس الأساسية للمنصب.


لم ينجح في البداية بتحريك العجلة الدبلوماسية. بعض التعليقات قالت حينها إن «وزيراً مملّاً تسلّم وزارة مملّة». فالرئيس الأميركي جيّر الكثير من صلاحيات الخارجية الى «مجلس الأمن القومي». ثم، جاء فشل إعادة إطلاق عملية التسوية بين الإسرائيليين والفلسطينيين ليغرق الوزير في خيبات إضافية. لكن كيري، المحارب الذي لا يستسلم بسهولة، تبنّى ملف المفاوضات بين باكستان وأفغانستان ونجحت جولاته المكوكية بين البلدين الى حدّ ما في إحراز تقدم في مسألة تحضير الانسحاب الأميركي وما بعده.
ثم جاء «الربيع العربي» والأزمة السورية، وهنا «شمّر» كيري عن ساعديه وقرر البحث عن الأدرينالين مجدداً.

ملك التناقضات والهفوات

لكيري نقاط ضعف واضحة تعرقل اندفاعه في معظم الأحيان. في حملته الرئاسية عام ٢٠٠٤، ركّز خصومه على أبرزها: التقلّب في المواقف. فهو الجندي في حرب فييتنام والناشط المناهض لها، وهو الذي وقّع على قرار غزو العراق، ثم لام بوش عليه. وأخيراً، هو الذي حاول التفاوض مع الرئيس السوري بشار الأسد عام ٢٠٠٩، ثم ما لبث أن شبّهه بهتلر. وها هو يحاول مرة جديدة فتح باب مفاوضات معه عبر حلفائه الروس. أضف الى ذلك سجلّاً من «الهفوات» أو «الأخطاء» التي تفوّه بها كيري في عزّ الأزمات الدولية، وهي ناتجة حسب منتقديه من «غطرسته» في العمل.

من فضيحة قيامه بنزهة على يخته خلال حصول الانقلاب العسكري في مصر، ثم إعلانه أن الجيش المصري «يرسي الديموقراطية في مصر». وبعدها الإشارة في أحد خطاباته الى أن واشنطن «مستعدة لإرسال جيوشها الى الأراضي السورية» ... ما استدعى مساعديه الى نشر بيانات توضيحية وملحقات بكل خطاب أو مؤتمر عقده كيري في السنوات الأخيرة. في مقابلة مع ديفيد رود، يعترف كيري بأن «خساراته» السياسية علّمته الكثير وأنه «غير مهتم بالسياسة بقدر ما يريد أن يحقق إنجازات فعلية». الإنجاز الأول حتى الآن هو إطلاق المفاوضات حول النووي الإيراني وحلحلة الأزمة، أما الإنجاز الثاني، يقول البعض، فهو اكتسابه ثقة سيرغي لافروف واحترامه.