أصدر «المجلس الانتقالي الجنوبي»، الموالي لأبو ظبي، أول من أمس، بياناً شديد اللهجة ضد ما يسمى «الشرعية»، مُعلِناً «فك الارتباط الكامل» معها، وداعياً إلى انتفاضة جماهيرية لاستعادة المؤسسات الإيرادية. بيانٌ يجلّي، مجدداً، محاولة تيار الإمارات في الجنوب الجمع بين الولاء الأعمى لأبو ظبي، والانحياز إلى مطالب الجماهير الرازحة تحت ضغوط الفقر والجوع. وهي مطالب لم يعد مجدياً، ولا بأي شكل، التغافل عنها، ولا سيما أن موجة الغضب الشعبي العارمة التي تجتاح المحافظات الجنوبية لم تَعُد تفرّق في تحميل المسؤولية بين طرفَي «التحالف» (السعودي والإماراتي)، كذلك فإن الجماهير الجنوبية باتت تدرك مدى تورّط كل من «الشرعية» و«الانتقالي» أيضاً، وانصياعهما لقطبَي «التحالف» الرئيسَين. كذلك، إن إيغال «التحالف» في تقديم مصالحه على المصلحة الجنوبية عقّد الوضع بالنسبة إلى طرفَي الأزمة المحليَّين (الشرعية والانتقالي)، حتى لم تَعُد المسألة قابلة للقسمة على ثلاثة، بل على اثنين فقط: إما الارتهان الكامل، أو العودة إلى صفوف الجماهير. يعمل «الانتقالي» على الالتفاف على مطالب الناس، وحرف شعاراتهم عن تحميل المسؤولية المباشرة لدولة الإمارات بوصفها أحد أهم المسبّبين للأزمة الاقتصادية، وذلك من خلال مناوراته المكشوفة في حصر المشكلة في «الشرعية». وهو اتهام، في جانب منه، صحيح، ولا أحد يستطيع إنكاره، لكن الجانب الأكبر من المسؤولية يتحمّله «التحالف» مجتمعاً.
الجمع بين الولاء المطلق للإمارات والمطالب الشعبية هو كالجمع بين الأضداد


إلا أن بيان «الانتقالي» لم يكن ليصدر لولا الضوء الأخضر الإماراتي، وهذا أمر محسوم وغير قابل للجدل، على رغم أن بعض فقراته لا تتّفق وسياسة «التحالف»، وأن مفردات المدح والثناء والتغنّي بمكارم الملوك والأمراء غابت عنه، في سابقة في أدبيات المجلس، لا تعني حتماً صحوة ضمير أو استفاقة على الواقع السياسي المرير الذي تعيشه النخبة السياسية في الجنوب. بيان «الانتقالي» صياغة جنوبية بروحية إماراتية، وهو راعى مصلحتين في آن واحد، علماً أن مصلحة الإمارات ستظلّ مُقدَّمة على ما سواها من القوى المحلية. والإيعاز بصدور البيان في هذا التوقيت بالذات كان يستهدف إصابة عصفورين بحجر واحد: العصفور الأول هو اقتناص دولة الإمارات فرصة الغضب الشعبي الذي يحمّلها المسؤولية عن الانهيار الاقتصادي للخروج من عبء المسؤولية، والضغط على الجانب السعودي لتغيير الوضع القائم داخل «الشرعية»، وعلى رأسه التخلص من التيار «الإخواني» (حزب الإصلاح) في حكومة أحمد عبيد بن دغر، والحاشية القريبة من الرئيس المستقيل عبد ربه منصور هادي، واستبدال قوى وشخصيات قريبة من أبو ظبي بهما. أما العصفور الثاني، فتلميع صورة «الانتقالي» بعد الأضرار الجسيمة التي لحقت بها جراء وضع أوراق الجنوب كاملة في الجعبة الإماراتية من دون أي مقابل، الأمر الذي جعل «المجلس» شريكاً كاملاً لـ«التحالف» في تنفيذ الأجندة الخليجية.
«المجلس الانتقالي» أمام مفترق طرق كما قال هو نفسه فعلاً. فالجمع بين الولاء المطلق للإمارات والمطالب الشعبية المحقة هو كالجمع بين الأضداد، وهو مستحيل في علم المنطق، ومستحيل كذلك في الواقع المعيش في المحافظات المُسمّاة «محررة»، إذ إن المسبّب الرئيس للانهيار الاقتصادي هناك هو «التحالف» بطرفَيه السعودي والإماراتي، ولا يقلّ دور الأخير في شيء عن الأول، إن لم يكن أكثر خطورة من دور الرياض. فالقوات الإماراتية تعطّل المرافق الاقتصادية والموارد الإنتاجية في المحافظات الجنوبية، وتعوق عجلة تطور البلد ونموه وازدهاره بكل الوسائل المتاحة. وحالة الانهيار الاقتصادي والسقوط المريع للريال اليمني ليست من باب الصدفة؛ فـ«التحالف»، بتوجيه أميركي، يستخدم الحرب الاقتصادية من ضمن أدوات الحرب على اليمن، والوضع الراهن بدأ بالظهور تدريجاً منذ نقل البنك المركزي من صنعاء إلى عدن. والجدير ذكره، هنا، أن السفير الأميركي في اليمن، ماثيو تولر، كان قد هدّد الوفد الوطني، خلال مفاوضات الكويت عام 2016، وبحضور الدول الـ18 الراعية للمبادرة الخليجية، بالحرب الاقتصادية والتجويع في حال عدم توقيع «صفقة الاستسلام».
على هذا الأساس، يتولّى طرفا «التحالف» الرئيسان إدارة الوضع الاقتصادي في اليمن، ولم تخرج إدارتهما عن سياق استمرار الأزمة الاقتصادية كأداة من أدوات الحرب. وبالتالي ليس غريباً على الإطلاق غياب خطط المعالجة، أو على الأقلّ السماح للأطراف المحلية بوضع خطة لمعالجة الأزمات التي تتفاقم يوماً بعد يوم. فالمطلوب إبقاء الجنوب تحت خطّ الفقر حتى لا يفكر أبناؤه البتة في مطالب سياسية. وإلا، فهل يعقل أن الإمارات، ذات الاحتياطات المالية الهائلة، غير قادرة على تشغيل مرفق واحد من المرافق المعطّلة، علماً بأن كلفة تشغيل تلك المرافق أو إصلاحها ليست بالتي تعجز عنها أبو ظبي إن صدقت نياتها.