نضال عبد العالغرفة الخال الخاصة، خاصة بكل ما للكلمة من معنى. ولولا أني أعرفه ما كنت لأصدّق أن أبو مروان بنى الغرفة بنفسه وصنع كل شيء فيها بيديه: الشبابيك والأبواب والسرير والمكتبة الملأى بالكتب، فالخال يقرأ التاريخ بشغف: قصص وروايات وأحداث، ومجلات «العربي» القديمة الإصدار، وأيضاً علبة الدخان اللف الحديدية، إطار نظاراته والمنفضة وأدوات الرسم، الريشة والألوان الزيتية واللوحات الخشبية وبراويزها. الغرابة فيه لا تقتصر على سلوك ما بعينه، فهو يحب أن يشكل عالمه الخاص ويرفض أن يشاركه أحد في صنعه. بل إن المتعة عنده هي أن يعيش تفاصيل تكوين هذا العالم بنفسه، ليعيشه بعد ذلك كما يحلو له.

حين كنت أدخل غرفته تلك، كنت أشعر بعمق لا أدرك كنه قراره، الأشياء البسيطة تختزن فلسفة حياة خاصة لساكنها، تشعر بها وتقرأها بحواسك في كل زاوية، وكل تفصيل، شخصيته وملامحه تتلمسها في أشيائه الكبيرة والصغيرة.
حين عدنا أدراجنا بعد تلك التجربة المرة المجنونة، التي أدت الى تدمير مخيم البارد بالكامل، زرته في منزل العائلة الكائن في قطاع «س» المطل على بركسات الحديد من الجهة الغربية و«بركسات الباطون» الجديدة من الشمال. وجدت الرجل السبعيني وقد خططت التجاعيد وجهه وتسمّر كتمثال من الطين الأسمر يتأمل أشلاء غرفته الخاصة المنفردة فوق الطابق الثاني، كان قد اختار موقعها لأنه يحب الوحدة والهدوء فيمنحه ذلك هامشاً من الحرية لممارسة طقوسه، هامش لا يجده مع الآخرين.
كان يجلس محاولاً أن يتمعّن في تلك الفوضى العارمة التي تكدست فيها أشلاء أشيائه، فقد أصابت قذيفة عمياء غرفته بشكل مباشر. هكذا وقف يدخن سيجارته وينفخ بقوة ويتأمل الأجزاء المبعثرة التي اختلطت بعضها ببعض، وصارت كومة من الأوساخ، أدوات الرسم تفتّتت وتبعثرت، والألوان الزيتية تجد بقعها هنا وهناك على بقايا الحيطان والأخشاب كأنها نزف لجريح ذي دماء ملونة ...
سلّمت عليه، وقلت له معزّياً: أخيرا عدت الى حضن غرفتك! كانت ابتسامته صفراء ولم يردّ إلا بكلمة واحدة: «نعم». استدركت وتمتمت ببرودة خجلة: «أقصد الى حيث كانت غرفتك»، كنت مربكاً لعظمة الموقف الذي وجدته فيه. ربما أزعجه حضوري المفاجئ، كأني قطعت عليه لحظات تأمل خاصة كان عليه أن يصل إلى نهايتها وحده.
نظرت الى يمينه فوجدت كومة من بقايا لوحات زيتية، لملمها من بين الركام ووضعها جانباً. صرت أقلّبها وأسمّي كل لوحة مستعيناً بذاكرتي ومتأملاً ما بان في بقايا كل لوحة: هذه نصف لوحة «حجيج القدس»، وهذه أجزاء من لوحة «بائع السجاد»، وهذه بقايا لوحة «يوسف وإخوته»، وهذا فتات لوحة «الجسر القديم» وهو جسر قائم جنوب المخيم فوق النهر، كان قد شيّده الفرنسيون ... اه «لوحة السوق»! نعم يا الله ... لقد كانت من أجمل اللوحات التي رسمها على الإطلاق: سوق الخضار في المخيم القديم. أنجزها في أواخر السبعينيات، وجسّد فيها معالم السوق التجاري الرئيسي في مخيم نهر البارد الممتد من الشارع العام حتى شارع البحر، وخص الساحة الرئيسية التي تقع في المنتصف تقريباً باهتمامه: التجار ومحالهم ومواقعهم، وبعض المارة والزبائن وتجمع الجزار أبو حسن خضر، وبهجات والنابلسي بائعي الخضار وأبو حسين الدحل بائع السمانة والعكاوي العجوز المعروف في المخيم والذي كان يضع بسطته بين الحلاق حشمي وأبو حسين الدحل، ويبيع الجرنك والمشمش والخوخ والأكيدنيا للأطفال «بالحبة».
لكن ما بقي من اللوحة هو نصفها فقط، فقد انكسر طرف من بسطة العكاوي، وغابت تماماً محال الجزار أبو حسن خضر وبهجات وداود الحلاق وجزء من قهوة العبد درويش!
أعدت النظر إليه من جديد، فوجدته صامتاً وكأني غير موجود، أدركت عندها أنه في مكان آخر، جئت في التوقيت الخطأ، ربما يعيد ترتيب هذه الأشلاء برأسه كي يعيد الحياة لها من جديد، وأن وجودي يعكر عليه صفو صلاته وتأملاته، فحييته وغادرت.
كان المخيم يصارع للبقاء على قيد الحياة، ولا شيء بين هذه الأنقاض يحفز على البقاء، سوى رغبة غريزية تشبه العناد المتولد من استفظاع الأسلوب الذي اتّبع للفتك بأي شيء يبعث على الحياة أو يمكن أن يكون سبباً في البقاء هنا، كأن كل شيء يصرخ بنا: لا نريدكم هنا وكفى.
في كل مرة كنت أمر في الحي، كنت أتعمّد النظر الى ذاك الاتجاه، على أمل أن أجد ما أنشده. وصدف أن كنت في زيارة صديق في بركسات الحديد حين لمحت غرفة منفردة فوق الطابق الثاني، أمعنت النظر فتأكدت أنه منزل أقربائي وهذه غرفة خالي، لقد مضى على غيابي عنه ما يقارب الثلاثة أسابيع، فشدّني فضولي لمعرفة ماذا جرى وكيف تجاوز الأمر، ولم أضيّع الفرصة، طرقت الباب وتابعت الى فوق كما اعتدت أن أفعل، وجدته يتربّع في مواجهة الباب ويضع مخدة في حضنه ويتكئ عليها بكوعيه ويدخن سيجارته المفضّلة «سيدرز»، ومنفضة حديدية صنعها من بقايا علبة حليب «نيدو» وضعها أمامه. ابتسم ورحّب بي. كان منشرحاً. وقفت قبالته مدهوشاً. لقد أعاد تشكيل عالمه الخاص من جديد وكأن شيئاً لم يكن! قلت مبتسماً: ها أنت كما تركتك منذ عام وليس منذ أسابيع، نفس «القعدة» والابتسامة والسيجارة! ضحك وقال: «لما عاد كل شيء الى مكانه، جلست في مكاني، إن موقعه الطبيعي داخل هذا العالم، تماماً كما الكواكب والإجرام والمجرات، أمكنتها وحركتها متناسقة».
تجاوزته ودخلت الغرفة أتأمل الأشياء التي أعاد صنعها، بالضبط كل شيء في مكانه ومصنوع بالطريقه البسيطة ذاتها وبالأدوات نفسها، فقد أعاد جمعها من جديد كأنه بيت مصنوع من لعبة المكعبات، السرير والطاولة، المكتبة فيها أشلاء كتب وبقايا مجلات العربي وتغريبة بني هلال وألف ليلة وليلة وكتب التاريخ ... لملم أوراقها وأعاد إلصاقها ووضعها في مكانها.




أما ما أذهلني حقاً؟ فقد كانت اللوحات الزيتية التي عادت الى أمكنتها السابقة تزيّن جدران الغرفة. رمّمها وأبدل ما تهشّم وتفتّت بطريقته اللافتة، لقد قصّ الأجزاء المهشّمة وألصق أجزاء جديدة وأتمّ رسم اللوحات، فأعاد الحجيج الى القدس، واستعاد بائع السجاد بضاعته، وربط الجسر بين ضفتي النهر، ورجعت الهمة الى إخوة يوسف كي يلقوه في الجب. والسوق! آه نعم ... لوحة السوق عادت كما كانت، فالتأم شمل الباعة والزبائن والمارة من جديد، وأعيد للعكاوي طرف بسطته المفقودة، يا إلهي ... كيف فعلت ذلك؟! كانت ابتسامته عريضة حين أجابني: ما كنت أستطيع أن أترك أشلاءها مبعثرة.