تتراكم وعود حلفاء الرياض بـ«العقاب» إذا ثبت تورطها في اغتيال جمال خاشقجي داخل قنصلية بلاده في اسطنبول، في ظل مماطلة تبدو مقصودة في كشف نتائج التحقيق. نجح الرئيس رجب طيب أردوغان في إبقاء حكام الرياض خلف قفص الاتهام، لوقت طويل، تاركاً إياهم أمام خيارين، أحلاهما مر، إما أن يعترفوا بالجريمة على طريقتهم، أو أن يتلقوا مزيداً من الضغوط والمطالبات من حلفائهم، في حين لم يعد الصمت مقبولاً، وهو ما بدا في مطالبة كلّ من بريطانيا وفرنسا وألمانيا السعودية بـ«ردّ تفصيلي». وأمام موقف الرياض المحرج، تضع أنقرة ما لديها من «معلومات» في أيدي استخبارات هذه الدول، لا سيما الولايات المتحدة، جاعلة الكرة في ملعبهم أيضاً، وكلما ارتفع «سقف التحذيرات» المتبادلة في الوقت البدل عن ضائع، أصبح وقوعه على رأس ولي العهد، محمد بن سلمان، موجعاً أكثر، يوم كشف الحقيقة الموعود.
الكرة في ملعب من؟
تسعى أنقرة إلى إشراك حلفاء الرياض الغربيين في امتلاك الحقيقة بشأن مصير خاشقجي، أولاً، من خلال إرسال تسجيلات تؤكد تورط الرياض، بحسب وسائل إعلام تركية، إلى استخبارات تلك الدول، لا سيما الولايات المتحدة، التي أكد رئيسها دونالد ترامب، أول من أمس، أنه سيستمع إليها ويشاهدها «قريباً جداً»، علماً بأن واشنطن تصبح مسؤولة عن كشف مصير خاشقجي رسمياً، في حال أرادت تطبيق قانون «ماغنيتسكي»، الذي يطالب به المشرّعون الأميركيون، إذ يلزم القانون ترامب بالعمل على تحديد هوية المسؤولين عن اختفاء خاشقجي، وإبلاغ الكونغرس بالنتائج في مدة زمنية لا تتعدى شهرين. وثانياً، تسعى أنقرة إلى إدخال بريطانيا على خط التحقيقات، عبر الطلب من لندن التوسط لدى الرياض لتسهيل انطلاق «التحقيق المشترك»، وهو ما يعتزم وزير الخارجية مولود جاويش أوغلو طلبه اليوم، خلال لقاء مع نظيره البريطاني، بحسب ما أكدت صحيفة «ذي غارديان»، أمس.
لكن في ضوء كل المؤشرات التي تؤكد تورط السعودية في عملية اغتيال، وعدم تعاون الأخيرة مع سلطات أنقرة رغم الضغوط الدولية، تبقى التحقيقات التركية، التي بدأت قبل حوالى أسبوعين، معلقةً على إحدى خطوتين، كلتاهما في ملعب تركيا: إما دخول مبنى القنصلية ومنزل القنصل محمد العتيبي للبحث عن أثر لخاشقجي، بعد رفع الحصانة الديبلوماسية عنهما، بما يتوافق مع اتفاقيات جنيف الأربع لعام 1949، أو الكشف على الملأ عمّا لديها من تسجيلات، مسموعة ومرئية، تقول وسائل إعلام تركية إنها تُظهر كيف تم استجواب خاشقجي وتعذيبه وقتله داخل القنصلية، قبل تقطيع جسده.
جاءت التهديدات السعودية بالتزامن مع هبوط البورصة أكثر من 7%


مسؤولية أنقرة في كشف مصير الرجل تأتي بعد موافقتها على طلب الرياض المشاركة في التحقيقات، في حين لم تُبدِ الأخيرة أي تعاون حتى الآن، لليوم الثالث على التوالي. ولم ترد على دعوة وزير الخارجية التركية مولود جاويش أوغلو، أول من أمس، إلى إفساح المجال لدخول محقّقين أتراك إلى مبنى قنصليتها، للبحث عن أثر لخاشقجي، في وقت تستقبل فيه القنصلية أشخاصاً أرسلتهم السعودية للمشاركة في التحقيق، دخل أربعة منهم (لم تعرف هوياتهم)، أمس، رغم كونه يوم إجازة رسمية. كذلك لم تقدم القنصلية دليلاً واحداً على مزاعمها أن خاشقجي غادرها يوم اختفائه، زاعمةً أن كاميرات المراقبة لم تكن تسجّل يوم دخوله، وترفض أيضاً دخول المحققين الأتراك منزل القنصل العتيبي، الذي يمكث فيه من أيام، حيث يُشتبه في وجود جثة خاشقجي هناك، بعد أيام على نقل صناديق من القنصلية بسيارة سوداء، رصدتها كاميرات خارجية.
عدم اقتحام السلطات التركية القنصلية ومنزل القنصل يبدو خاضعاً لاعتبارات سياسية، تتركه أنقرة كخيار أخير، ولكن عدم الكشف عن التسجيلات يجعلها محل شك، خصوصاً في ظل تضارب المعلومات في الصحافة بشأنها. صحيفة «ميلييت» التركية ذكرت أنّ ضبّاطاً أتراكاً اطلعوا عليها، وأنه أمكن سماع «الجدال والصراخ» من خلالها، كما أفادت صحيفة «سوزجو» أنّه يمكن فقط الاستماع إلى «بعض الأحاديث» في التسجيل الذي مدّته «بضع دقائق». أما شكبة «سي أن أن» الأميركية، فقالت إن «وكالة استخبارات أجنبية» تمتلكها، وتكشف «وقوع شجار داخل القنصلية»، و«توثق لحظة مقتل خاشقجي». كذلك فإن خبراء تكنولوجيا شكّكوا في إمكانية الحصول على تلك التسجيلات من جهاز «آي فون» الخاص بخاشقجي، الذي كان مع خطيبته خديجة، خارج القنصلية، والمرتبط بساعة يد ذكية كان يلبسها الرجل أثناء وجوده داخل القنصلية.

سقف تهديد مرتفع
بعد أن كان ترامب قد أكد أنه لن يوقف بيع السلاح للسعودية، حتى لو ثبت تورطها في اغتيال خاشقجي، حذّر أمس من «عقاب قاس» من نوع آخر، فيما أكد مستشاره للشؤون الاقتصادية، لاري كودلوو، أنه «جاد» في ذلك. وإزاء تدهور صورة ابن سلمان في أروقة القرار الأميركي، خرجت الرياض عن الصمت، أمس، بالتهديد «بإجراء أكبر» ضد أي خطوة تُتّخذ ضدها. لم يستطع ولي العهد، الذي أعلن أخيراً تقبّله «إهانات» صديقه ترامب باعتبارها «موجهة إلى جمهوره»، ابتلاع التهديد الأخير بفرض عقوبات، إذ ذهب ولي العهد بعيداً، ملمّحاً إلى أن على طاولته أكثر من 30 إجراءً مضاداً، عبر مقال للكاتب تركي الدخيل، المقرّب منه، على موقع قناة «العربية»، كعدم التزام الرياض بإنتاج 7 ملايين برميل، مع اقتراب موعد دخول العقوبات الأميركية على إيران، وتصدير النفط بالعملة الصينية (اليوان) بدلاً من الدولار، وإنشاء قاعدة عسكرية روسية في تبوك، والتقرّب من طهران، وتحويل حركة «حماس» و«حزب الله» الى «صديقين».
التهديدات السعودية الفضفاضة، والتي يبدو أنها تراجعت عنها بعد ساعات، تبدو مجرد رسالة إلى الأميركيين، تنم عن «هلع» من أي إجراء ضدها، وتسمح بمزيد من «الحلب»، في حين تواجه المملكة تحديات اقتصادية غير مسبوقة، تفاقمت إثر قضية خاشقجي، إذ جاءت التهديدات بالتزامن مع هبوط البورصة أكثر من 7%، أمس، بفعل تخوفات المتعاملين من إمكانية فرض الولايات المتحدة عقوبات على المملكة، وفق وكالة «بلومبيرغ»، في حين تتسع حملة مقاطعة المملكة اقتصادياً.