خلال حرب طرابلس الأخيرة، التي استمرت شهراً وانتهت في نهاية الشهر الماضي، توحدت ميليشيات مدينة طرابلس الكبرى، في جبهة أطلقت على نفسها اسم «قوة حماية طرابلس». لكن تلك الوحدة، لم تكن إلا تحالفاً «مرحلياً»، سبقه تنافس داخلي على النفوذ والموارد، عاد بعد انتهاء الخطر المشترك الذي مثله «اللواء السابع»، القادم من مدينة ترهونة، و«لواء الصمود»، التابع لصلاح البادي، والقادم من مدينة مصراتة. رجعت ميليشيات طرابلس، أو «الكارتيلات» كما يصفها باحثون غربيون، للدلالة على كبر حجمها وتعقد شبكاتها، إلى الحروب التوسعية، رغم انطلاق الحكومة رسمياً في تطبيق «ترتيبات أمنية» جديدة، جاءت نتيجة الحرب، تهدف أساساً إلى الحد من نفوذها وإخراجها من المناطق السكنية، أو تعويضها بقوات شرطية مشكلة من جميع مدن ليبيا.
بدأ الأمر في مدينة الزاوية، الواقعة غرب طرابلس، حيث قُتل بداية هذا الشهر، القيادي السابق في «غرفة ثوار ليبيا»، فادي السلوقي (يُلقب بالوحشي). وتشير أخبار مسربة إلى أن الرجل شارك في الحرب الأخيرة، من دون معلومات أكثر، عن الجهة التي حارب معها، لكن المعلوم، أنه سُجن سابقاً على يد «قوة الردع الخاصة»، ذات التوجه السلفي المدخلي، بعد اشتراكه المفترض في خطف ديبلوماسيين مصريين عام 2013، وخطف السفير الأردني بعدها بعام.
لم تمض سوى أيام حتى تجدد القتل، لكن في ضاحية تاجوراء، شرق العاصمة هذه المرة، حيث سقط زعيم ميليشيا، يحمل رتبة ملازم في وزارة الداخلية التابعة لحكومة طرابلس، يُسمى صالح قبقوب يوم 12 تشرين الأول/أكتوبر. كانت مجموعة القتيل تسيطر على «معسكر النعام»، إلى أن دخلت في اشتباكات مع «كتيبة الضمان» التابعة لـ«المجلس العسكري في تاجوراء».
عاد التنافس على النفوذ والموارد بعد انتهاء الخطر المشترك المتمثل بـ«اللواء السابع»


تدريجاً، انتقل الاستهداف من أطراف إلى وسط العاصمة، حيث قُتل، أول من أمس، القيادي الأمني خيري الككلي (يُعرف بكنية حنكورة)، بينما كان واقفاً قرب فندق «راديسون بلو». انخرط الرجل سابقاً في «قوة الردع والتدخل المشتركة – محور أبو سليم»، التي تقودها عائلة الككلي، لكنه اختلف معها لاحقاً، وانضم إلى «كتيبة ثوار طرابلس»، التي يقودها هيثم التاجوري، وقاتل معها في الحرب الأخيرة، وهو يحمل رتبة ملازم أول (نالها بترقية استثنائية من الداخلية).
وفي اليوم نفسه، استُهدف أيضاً عنصران من «قوة الردع الخاصة». وتشير «المعلومات» إلى أن الرجلين اختطفا في مرحلة أولى، ثُم أطلقت عليهما رصاصات، ورميت جثتاهما أمام مستشفى طرابلس المركزي.
أسباب هذه الموجة الجديدة من الاغتيالات معلومة في عمومياتها، لكن الباحث الليبي، بشير الزواوي، أوضح في حديث إلى «الأخبار»، أنّ «من الصعب جداً التكهن بتفاصيلها»، مشيراً إلى أن هذه الميليشيات «تدير شبكات معقدة من الأعمال، مرتبطة بمصارف وشركات، وبالهجرة غير الشرعية، تمتد من طرابلس إلى الزاوية وصبراتة وزوارة، وتسيطر أيضاً على مواقع عامة في الدولة». مع ذلك، تبدو «الترتيبات الأمنية» وثيقة الصلة بالموضوع أيضاً، إذ يشير الزواوي إلى أن قادة المجموعات المسلحة أصبحوا «يشعرون بأن نهاية هذا البزنس (التجارة) أصبحت قريبة جداً، لذلك بدأوا بتصفية الحسابات القديمة».

الإمارات في المعادلة
يرجّح مراقبون وجود مؤثرات إقليمية في ما يجري في طرابلس. الباحث الزواوي أوضح أن «خروج هيثم التاجوري من المشهد، أفسح المجال أمام بروز قيادات عدة مغمورة لهذه الميليشيات، خاصة في منطقة تاجوراء». في واقع الأمر، لم يتحدث التاجوري علناً منذ بداية الحرب الأخيرة، حيث أعلن في حينها وصوله إلى طرابلس، برفقة هاشم بشر (مستشار لدى رئيس الحكومة، فائز السراج، وصاحب نفوذ أمني في العاصمة)، قادمين من رحلة حج، لكن الزواوي يشير إلى انعدام «وجود دليل على أنه قاد معركة في الحرب الأخيرة، وتشير أنباء إلى وجوده في دولة عربية خليجية (الإمارات)». ويرى الباحث الليبي أن «هيثم وبشر اختارا العرض الذي طرحه (المبعوث الأممي) غسان سلامة، أخيراً، حين قال إن البعثة تريد دراسة وضع الميليشيات جيداً، لتحديد من يريد منها الانخراط في الشرطة، ومن يريد العودة إلى حياته الطبيعية، ومن يريد أن يغادر البلاد». وما يدعم هذا التوجه، حديث المشير خليفة حفتر عن هذه الخيارات في فترة سابقة، قبل أن يلتقطها سلامة ويتبناها. وقد جاءت اقتراحات حفتر خلال حديث جمعه مع وجهاء قبليين من المنطقة الشرقية، في خضمّ حرب طرابلس الأخيرة، حين قال إنه مستعد لدعم قادة الميليشيات الطرابلسية، الذين يريدون الخروج من البلاد، ولهم أن يحملوا معهم مبالغ مالية، على أن «لا يعودوا قبل عقد على الأقل... حتى تهدأ النفوس».
تجدر الإشارة إلى أن هيثم التاجوري كان قد زار الإمارات سابقاً، حيث نشر صوراً له في ردهات أحد فنادقها، وتسربت معلومات عن تواتر رحلاته إليها، وعن وجود تنسيق محتمل مع قياداتها السياسية والأمنية. لكن ما الذي يمنع الرجل من إعلان ذلك؟ يقول بشير الزواوي، إن ثمة احتمالاً لـ «وجوده قسرياً» هناك، مشيراً إلى أن «الإمارات لها سوابق في ذلك (أي احتجاز مواطنين ليبيين)، وربما حصل الأمر بتنسيق مع حفتر».
يرسم الباحث الليبي سيناريو محتملاً لسيطرة حفتر على العاصمة، فهو «مصمم على التحضير للحرب، حيث وردت أنباء عن تجهيزه لثمانية ألوية سيخوض بها المعركة». ما الذي بقي إذاً؟ توجد في المعادلة أيضاً «قوة الردع الخاصة»، إحدى أكبر ميليشيات طرابلس وأكثرها تنظيماً، وهي وإن كانت موالية اسمياً لحكومة فائز السراج، إلا أن انتماءها سلفي مدخلي، ويُحارب أتباع هذا التوجه مع حفتر في شرق البلاد، بتوجيهات مباشرة من الشيخ السعودي ربيع المدخلي، الموالي لسلطات بلاده السياسية.
يشكك الزواوي في ولاء «قوة الردع الخاصة» لحكومة «الوفاق الوطني»، فهي بالنسبة إليه «لم تجد فرصة لإعلان تحالفها مع حفتر»، كذلك فإنها «تلقت أخيراً تعزيزات بوحدات سلفية من مناطق مختلفة»، ولا يمنع تمرد هذه المجموعة سوى «وجود تيارات مسلحة تعارض حفتر في طرابلس ومصراتة، تمثل تهديداً لها».