ريف دمشق | تجري عادةً سرقة البيوت والمحال التجاريّة، على نحو واسع، في مدينة أو بلدة ما من ريف دمشق بعد المعارك العسكرية الفاصلة التي تفضي إلى انتصار طرفٍ على آخر. فتقوم جهات من الطرف المنتصر، بـ«تعفيش» المنطقة المُستولى عليها، فوتتنقل البرّادات والغسالات والشاشات والحواسب المحمولة والأثاث المنزلي... إلى أسواق المسروقات، التي وُجدت وتكاثرت خلال الأزمة، والتي يتعامل تجّارها مع ممتهني السرقة من الطرفين.
وتعبّر الجهات التي تمارس «التعفيش»، من خلال قيامها بهذا الفعل، عن نصرها ضمن منطق «الغنيمة» التي تعني النصر على الأعداء من جهة، وتعويضاً عن التعب والتضحيات التي بذلتها من جهة أخرى.
فبعض المسلّحين الذين قاموا بالسرقة في بداية الأزمة، وجدوا المسوغات لأفعالهم على نحوٍ يسير، إذ استندوا إلى ريع المظلومية، وكانوا يردّدون على الدوام عبارات مثل: «النظام قتل أهلنا وشرّدهم واعتقل اخوتنا وسرق ممتلكاتنا... ونحن نثور عليه، أفلا يستحقّ هذا منك (أيها المواطن) التضحيّة بقليلٍ بالمال، أو مقتنيات منزلك، من أجل الثورة...؟!». وبعد أن استهلكت هذه الإسطوانة، «باتت للثورة قوانينها التي ترعاها الهيئة الشرعيّة في الغوطة الشرقية، ومتزعمو الفصائل المسلّحة في باقي مناطق الريف»، يعلّق ابن برزة، أبو حيّان (51 عاماً) ساخراً، فوفقاً لهؤلاء يوجد مشروع لدولة المعارضة المسلّحة، على أساسه تُفرض ضرائب وغرامات على المواطنين، وتُصادر أملاك «العواينية»، ويجري الإمساك بزمام الحياة الاقتصادية في «المناطق المحرّرة»، ويحاصر «النظام» اقتصادياً بمحاصرة المناطق الواقعة تحت سيطرة الدولة. «أما إذا أقدم مسلّح، أو مجموعة مسلّحة على السرقة، فهذا الجُرم يسمّى، وفقاً لقوانين الهيئة الشرعيّة، حرابة أو فساداً في الأرض، معالجته لا تستدعي سوى محاكمة شرعيّة تطول مجرياتها حتى يتدخّل زعماء المسلّحين لحماية عناصرهم، مستخدمين شتى أنواع الوساطات، أو التهديدات، لتبرئة الجاني»، يضيف أبو حيّان.
وفي المقلب الآخر، بعد كل عمليّة يقوم بها الجيش السوري في بلدة ما، في ريف دمشق، يستولي عناصر من «اللجان الشعبية»، بالتعاون مع بعض عناصر الأمن، على مقتنيات بيوت ممن يعدّون معارضين، وفقاً لتصنيفاتهم، والذين هم غالباً أبناء بيوت محسوبة على المسلحين بالكنية.

أملاك الدولة غنائم «الثورة»

تتركّز معظم سرقات مسلّحي المعارضة على أملاك الدولة بوصفها غنائم. وقبل أن يسيطر هؤلاء على مناطق جغرافية على نحوٍ شبه دائم، كان من الصعب عليهم تصريف مقتنيات البيوت أو المحال التجاريّة، فلجأوا إلى نهب دوائر الدولة، وأكثرها مدنية. يصف لبيب الشربجي، من داريّا، لـ«الأخبار» سرقة دائرة ماليّة داريا بأنها من أكثر فصول الحرب هَزلاً. ففي أول ظهور لـ«الجيش الحر» في تلك المنطقة، أغارت مجموعة منهم على دائرة الماليّة التي تحتوي على مبالغ طائلة، وخلال دقائق انسحبت المجموعة بعد أن أصبحت كل خزنات النقود خالية، ثم أقبلت مجموعات أخرى بعد سماعها بنهب «الماليّة»، وقد بدا على وجوه عناصرها الاستياء، لأنهم لم «يلحقوا» الاقتحام الأول، «إلا أنّهم مع ذلك لم يوفروا ما تبقّى من كراسي وطاولات وحواسيب جرى نقلها على الدراجات الناريّة في مشهد مثير للأسف».
وأكثر ما اشتهر به المسلّحون، في تلك الفترة، سرقة السيارات بمختلف أنواعها، فبدأوا بسلب سيارات الإسعاف و سيارات الـ «بيك أب»، التي تتواجد بكثرة في الأرياف الزراعية، وتصلح لتركيب رشاش دوشكا عليها، ثم سيارات الأجرة، والميكروباص المستخدم في النقل الداخلي في دمشق وريفها. ويقول س. حمدي، سائق ميكروباص على خط سبينة ــــ عرطوز، لـ «الأخبار»: «بعد أن قام حاجز طيّار للجيش الحرّ بمصادرة سيارتي، أعادوها لي بعد أن دفعت لهم مبلغ 100 ألف ليرة، عن طريق سماسرة في سبينة، كانوا على تواصل معهم». وبحسب المتابعين، فإن معظم السيارات المستخدمة في عمليات مسلّحي المعارضة، وبالأخص تفجير السيارات المفخّخة، مسروقة من مدنيين، أو من مؤسّسات الدولة، ويفضّل هؤلاء عادةً سيارات تحمل لوحة منسوبة إلى المناطق التي تعتبر موالية.

سرقات «شرعيّة»

منذ نحو عام، وبعد سيطرة «جبهة النصرة» و«جيش الإسلام»، (لواء الإسلام سابقاً)، بالإضافة إلى «الجيش الحرّ»، على معظم أراضي الغوطة الشرقية والريف الجنوبي لدمشق، انتشر «التعفيش» على نحوٍ واسع. ففي الغوطة الشرقيّة ويلدا وببيلا، أفتت «الهيئة الشرعيّة لدمشق وريفها»، التابعة لـ«جيش الإسلام»، بمصادرة أملاك «العواينيّة»، بالإضافة إلى أملاك الدولة، ووضعت قوانين تجيز من خلالها الاستيلاء على البيوت والمحال التجاريّة التي نزح أهلها، بما فيها، بعد إعلام صاحب المُلك هاتفياً، بأن «جيش الإسلام» استخدم أملاكه لخدمة المحتاجين. يقول نازح من كفربطنا لـ«الأخبار»، انّه تلقى اتصالاً من عنصر من «جيش الإسلام» يطلب منه الموافقة على إسكان عائلة أحد «المجاهدين» في بيته، ولمّا رفض الطلب، متذرعاً باحتمال عودته مع عائلته إلى البيت، «استنكر العنصر رفضي بشدّة، وتلا على مسامعي مرافعة، يبدو أنّها معدّة سلفاً، حول ضرورة خدمة الثورة، والتوقف عن مساندة النظام من حيث لا ندري. وعلمتُ لاحقاً أن هناك مسلّحين باتوا يقيمون في بيتي. وصرت أخشى إذا ما فكرّت بالعودة لتفقد بيتي أن يقوموا باتهامي كعوايني».
وفي مخيّم اليرموك انتشر «التعفيش» على نحوٍ واسع، حتّى أن الأهالي هناك باتوا يسخرون من قيام المسلّحين بسرقة شاشات LCD، الأخف وزناً والأكثر سعراً، بالقول: «تكبير... حميل الشاشة وطير». ويُذكر أن الكثير من الأهالي بنوا عند نزوحهم جدراناً بدل أبواب البيت الرئيسي، كي تصعب سرقتها، فيلجأ المسلّحون إلى بيوت أخرى يجري الدخول إليها على نحوٍ أسهل.
ويعدّ حجم المسروقات من مدينة داريا (الغوطة الغربية)، الأكبر في ريف دمشق. فقد لجأ الكثير من تجّار العاصمة في بداية الأحداث إلى نقل بضائعهم من مستودعاتهم في الغوطة الشرقيّة إليها، إذ كانت أكثر أماناً، وتأخّر ظهور المسلّحين فيها قياساً بالريف الشرقي. وفي هذا السياق يروي مصدر مقرّب من «الجيش الحر» أنه «جرى نقل مئات الألوف من قطع الأثاث والموبيليا من الريف الشرقي إلى داريا، التي كانت بدورها تضم في مستودعاتها كمّية من البضائع ليست بأقل، فأصبحت بذلك بضائع ورشات الموبيليا في كل ريف دمشق تقريباً في مستودعات داريّا». ولدى تحوّل المدينة إلى ساحة حرب «أصبحت سرقة هذه البضائع نقطة التقاء لكبار حراميّة الأزمة، إذ يوجد طرفان يتولّيان هذا الأمر، على درجة عالية من التنسيق، أحدهما من «لواء أحفاد الرسول»، وله أعوان في مختلف فصائل المعارضة المسلّحة الأخرى، والآخر من جهات أمنيّة، الأول يقوم بتعفيش البضائع، والثاني يقول بتأمين خروجها، والطرفان متفقان على نسب توزيع الأرباح بينهما، وبين أعوانهم».

«اللجان الشعبيّة»: غنائم مضادّة

ما إن يقتحم المسلّحون مدينة أو بلدة ما، في ريف دمشق، حتّى تصبح «منطقة معارضة»بنظر بعض عناصر «اللجان الشعبية»، وتستحق أن تُنهب عقاباً لها عن خروجها عن سيطرة الدولة. إلّا أن الكثير من الأوساط السياسية والشعبية التي تُحسب على الموالاة، بحسب المتابعين، لا تجد في هذا المنطق سوى تبرير مضلّل لعمليات السرقة. فعلى سبيل المثال، أصدرت الهيئة الروحية لطائفة الموحدين الدروز في جرمانا، جنوب شرق العاصمة، قراراً يمنع الصلاة على قتلى عناصر «اللجان الشعبية» الذين يقتلون في عمليات خارج مدينة جرمانا، أو محيطها القريب، أي خارج المنطقة التي كلفهم الجيش السوري بحمايتها. والسبب في ذلك، بحسب مصادر مقرّبة من الهيئة، أن معظم هؤلاء يذهبون لسرقة مناطق سيطر عليها الجيش حديثاً، متذرعين «بمؤازرة الجيش». وقام الجيش غير مرّة باعتقال عناصر كانت تقوم بـ «تعفيش» مناطق خالية من أهلها، وتقع بالقرب من جبهات القتال. يقول إبراهيم حيدر، وهو جندي يخدم على حاجز مفرق جديدة عرطوز في الغوطة الغربية إنّ «معظم عناصر اللجان الشعبية مدنيون بالأصل، وبعضهم لا يفهم تقاليد المؤسّسة العسكريّة الوطنيّة، لذا تراهم من أكثر الأطراف التي تمارس التجاوزات على الأرض. وقد ألقينا القبض على بعضهم عدّة مرات متلبّسين بسرقة بيوت في مزارع داريّا». وتؤكّد مصادر متعدّدة لـ«الأخبار» قيام عناصر من «اللجان الشعبية» في شارع نسرين، الواقع في حي التضامن، جنوبي دمشق، بسرقة محلات شارع السبورات كلّها، التي تشكّل سوقاً كبيراً للأجهزة الكهربائية والألبسة والمواد الغذائية. ويروي أحد النازحين من الحي ذاته عن مواطن أجبره عناصر من اللجان على مساعدتهم بتحميل عفش بيته إلى سيارة خاصّة بهم.




تجّار المسروقات: تنسيق مع الجهتين


قبل موجات النزوح الكبرى من مناطق الريف، ظهرت البضائع المسروقة بأثمان بخسة في أسواق الأثاث المُستعمل، التي كانت موجودة منذ ما قبل الأزمة، مثل «سوق الحرامية» وسط دمشق خلف جسر الثورة؛ وسوق دويلعة على طريق الكبّاس، جنوب شرقي دمشق؛ وفي محيط كراج السومريّة، غربي دمشق. أحد الباعة في «سوق الحرامية»، رفض ذكر اسمه، يقول: «قبل النزوح، كانت الناس تأنف شراء المسروقات بالرغم من أسعارها المنخفضة. أما بعد النزوح والحصار الاقتصادي، الذي منع استيراد الكثير من أنواع البضائع، وبالأخص الكهربائية، ارتفع الطلب ومعه الأسعار أضعافاً مضاعفة عن السابق»، إذ يبلغ سعر أرخص ثلاجة مستعملة 20 ألف ليرة، وأرخص حاسب محمول مستعمل 50 ألف ليرة.
ومن أعراف «سوق الحراميّة» أن معظم البائعين، لديهم سيارات لنقل العفش المستخدم من مكان وجوده إلى السوق، ويساعدهم في ذلك حمّالون يتواجدون بكثرة في السوق، لذا فهم على دراية كاملة بمصدر كل البضائع التي تصلهم. ويضيف البائع: «في هذا السوق بضائع من كل المناطق المشتعلة، في الغوطتين، والسيارات تأخذ البضائع من محيط تلك المناطق». وعن هويّة الجهات التي تبيعهم عادة تلك البضائع، يقول: «تعاملنا يجري عادة مع أشخاص يبدو أنهم من اللجان الشعبية والأمن، إلا أن بعض التجّار الكبار يتولّون عملية التحكيم بين المسلحين وهؤلاء، عندما يقع خلاف على السعر، من خلال قيامهم بتثمين البضائع».