بدا واضحاً أن «تعفيشاً» من نوع جديد تشهده الثروة الحراجية في سوريا، إذ إن الحرائق التي تندلع بين حين وآخر في شكل مفجع ليست بلا «فاعل». 20 حريقاً خلال 48 ساعة (4 و5 تشرين الثاني) في مناطق متفرقة من أرياف الساحل. بدأت من جبل الأربعين وريف القرداحة، وعادت لتندلع في المزيرعة مستهدفة أراضي زراعية في دوير الشلف وياسنس، ولم ينتهِ المطاف، باشتعال أراض حراجية، أمس، في قرية العنازة في ريف بانياس. حرائق على مد النظر على طول الساحل السوري وجباله، تخلّف خلفها أشباحاً وهياكل سوداء لما كان سابقاً شجراً حراجياً، بعضه معمّر، ما يعني صعوبة تعويضه والتشجير مكانه. وكالعادة، تتوجه أصابع الاتهام إلى تجار الفحم، بحكم رواج «الأراكيل» في المقاهي والمطاعم وارتفاع سعر كيلو الفحم الطبيعي إلى 1200 ليرة في بعض المواسم. توقيت اندلاع الحرائق بحد ذاته يشكّل استفزازاً للمتابعين، إذ بات يتزامن كل مرة مع وجود رياح قوية، ما يعقّد عملية إخماد النيران ويعرقل عمل فرق الإطفاء التي تحاول بإمكانيات متواضعة درء الفجيعة.
أهالي المناطق المتضررة أثنوا على جهود الإطفاء، التي شارك بها فرق عمال وآليات حكومية وفرق إطفاء كل من اللاذقية وطرطوس وحماة، إضافة إلى مطار حميميم، بمشاركة آليات ثقيلة وعازلة لفتح خطوط النار ومنع امتدادها وتسهيل وصول فرق العمل. مسؤولو اللاذقية نوّهوا إلى صعوبات تواجه عملية الإطفاء، من بينها وعورة تضاريس المنطقة وسرعة الرياح الشرقية وانخفاض نسبة الرطوبة في الجو والتي انخفضت إلى ما دون 24%، فيما بقيت تساؤلات الأهالي عن الفاعلين، بلا إجابات منهم. ولعلّ بعض الإجابات يمكن أن توفّرها التحقيقات التي أجراها عناصر من الشرطة وحفظ النظام للوقوف على ملابسات هذه الحرائق، من دون جدوى مباشرة.
يشير الأهالي إلى وضع «بعض المتنفذين» يدهم على الأراضي المحروقة


مساحات هائلة تخرج من الخريطة الحراجية كل عام، بفعل الحرائق المتكررة، وسط ملاحظات من أهالي المناطق التي تشهد تلك «الحوادث». إذ ينبّه علاء (صياد من ريف اللاذقية الشمالي) إلى وضع بعض المتنفذين يدهم على الأراضي خلال مدة قصيرة من إخماد الحرائق. ويشير إلى محاولات «البعض» الاستفادة من الأراضي المحروقة وضمّها إلى أراضٍ أُخرى أو استئجارها من الدولة. ويتساءل زياد (فلاح أربعيني) عن دور موظفي الزراعة والأحراج المكلفين حماية الغابات، وتزويد بعضهم بوسائل دفاع عن هذه المناطق الحرجية. ويقول: «لا مشكلة لدي مع فقير يقطع شجرة ليتدفأ على حطبها، بينما للدولة مشكلة معه. إنهم يلاحقونه ويكشفونه، غير أنهم يفشلون في الكشف عن تجار الحطب والفحم والمستفيدين من الحرائق».

نجاح لافت في دريكيش
حماية الثروة الحراجية لا تبدو للوهلة الأولى من ثقافة الريف السوري، الذي اهتم فلاحوه عبر التاريخ بالأشجار المثمرة وإنتاج المحاصيل الزراعية. غير أن بعض الفتيات والشبان من مدينة دريكيش تمكنوا من صنع فارق في وجه الثقافة العامة اللامبالية بسلامة الأشجار المعمرة، في بلاد انتهكت الحرب الإنسان فيها، حتى بدا التفكير في حياة غيره ترفاً. حملة توعية عبر «فايسبوك»، أطلقها بعض أبناء دريكيش لمنع البلدية من قطع أشجار الصنوبر المعمّرة المحيطة بالمبنى، بهدف إقامة غرفة النافذة الواحدة. انتقادات لاذعة واجهتها بلدية المنطقة الغنية بينابيعها المعدنية الطبيعية ليصل الأمر إلى حد المطالبة بمعاقبة المسؤولين المعنيين الذين تفتقت أهواؤهم عن إقامة المشروع الإداري الهام للبلدة، على حساب أشجارها المعمّرة. ووصل الأمر ببعض أصحاب الحملة إلى حدّ التلويح بإنشاء درع بشري لحماية الأشجار المستهدفة. وعلى رغم حملات مضادة تساءلت عن مدى أهمية الكثافة الشجرية في محيط البلدية، لا سيما في ظل إصابة بعض الأشجار بأمراض، ما يتطلب تقليماً واهتماماً خاصاً بها، غير أن قرار محافظ طرطوس جاء حاسماً. إذ جاء تعميم المحافظ إلى مديرية الخدمات الفنية بتعديل دراسة المشروع، بما يكفل تفادي قطع الأشجار ضمن المبنى المُضاف. وبين أصحاب المصالح الذين وجدوا في مباشرة مشروع النافذة الواحدة ما يخدم أهالي دريكيش أكثر مما تفعل «بضعة أشجار»، وأنصار الأشجار والبيئة ومعجزة نشر ثقافة الحفاظ على الطبيعة، جاءت النتيجة كما لو أنها: «الأهالي متيقّظون. ابنوا مشاريعكم الحيوية بعيداً عن الأشجار المعمّرة». وهي نتيجة رائعة في بلد تحترق جباله وغاباته بغياب نتائج مقنعة لتحقيقات مسؤوليه طيلة سنوات من التخريب والانتهاك، ليبقى السؤال: هل من درع بشري أو قانوني يقي الأشجار من الحرائق والأذى؟