متسلّحة بحسّ تسويق عالٍ، ألّفت كريستين أوكرانت عملاً جديداً مكرّساً لمحمد بن سلمان، «أمير السعوديّة الغامض». حسناً... يشبه الأمر قليلاً مطالبة مدير مطعم «ماكدونالدز» بالحديث عن المطبخ الراقي... لكن لسوء حظها، صدر هذا الكتيّب قبل انطلاق قضيّة خاشقجي! ونظراً إلى وعيها بأنّها ليست الشخص الذي نتوجه إليه عفوياً لمحاولة فهم السعوديّة وبلاياها، تطمئننا السيّدة منذ توطئتها: «بعملي سابقاً في برنامج 60 دقيقة، الذي يبثّ على قناة (سي بي اس نيوز) التي تلقيت تدريبي فيها، حظيت بفرصة زيارة السعوديّة (...) ومنذ ذلك الحين، لم أتوقف عن الافتتان بهذه المملكة الواقعة خارج الزمن، ودورها المتزايد في عذابات الشرق الأوسط».

يستدعي هذا التذكير بسيرتها تقديم تعليقات، وخاصّة أنّها تحمل كنية «الملكة كريستين»، فقط لأنها «تلقت تدريبها» في وسيلة إعلام أميركيّة. دون إطالة التعقيب على الاستلاب الاستعماريّ الذي يعانيه دعاة هذه الكنية، يجب القول بوضوح إنّ كريستين أوكرانت ليست «ملكة» أيّ شيء، باستثناء كونها ضيفاً دائماً في اجتماعات «مجموعة بيلدربيرغ» التي تجمع مئة صاحب قرار ماليّ غربيّين يدّعون تملّكهم مسيرة العالم...
إلا أنّها، ومنذ زمن طويل، تُعرف بأنّها «ملكة» التسويق والبيوت. ولتفاصيل أوفى، نقرأ ونعيد قراءة فصل ــــ كيف صارت «الملكة كريستين» امرأة «تنظيف»، ثم «صوت فرنسا» ــــ في كتاب الصحافيّ بيار بيان «العالم وفق كا» (Pierre Péan :Le monde selon K. Editions Fayard، 2009.).
مع ذلك، تفرض علينا المهنيّة أن نبحث عن سبب «افتتان» زوجة برنار كوشنير بالسعوديّة منذ زمن طويل، وبالتالي يتوجّب قراءة كتيّبها الأخير. لا دهشة في أن نلاحظ مبكراً أنّها غير عارفة ــــ لا بالمملكة المعنيّة ولا بإشكاليّات المنطقة، ولا بأيّ شيء حول اللغة العربيّة ــــ، فهي تصفّف صفحات «ويكيبيديا» بشكل محرّر على نحو جيّد نوعاً ما. وبين القصّ واللصق، تعيد إنتاج ــــ إلى درجة ما أيضاً ــــ بعض الحوارات التي أجراها مختصّون على غرار ستيفان لاكروا ــــ وهو أحد المختصين المحترمين في الشؤون السعوديّة ــــ والمختص في الإسلاميّات المساند لإسرائيل جيل كيبل. لكن، ماذا يستفيد القراء من هذا النسخ المعوز؟ يمكنهم التوجّه إلى المهمّ وقراءة أعمال لاكروا وكيبال مباشرة ليكوّنوا فكرة...
من الجليّ أنّ السيدة أوكرانت لم تهن القارئ بتوفير ببليوغرافيا محترمة في أطروحتها الخرقاء، حيث وضعت سيرتها الشخصيّة أسفل بعض الإحالات والتحايا.
وتشمل تحياتها جاك أتالي، وهو «مختصّ» كبير ومعروف في الشؤون السعوديّة. ويستحق ملك «المعرفة الشاملة التقريبيّة» هذا أن يقتبس (صفحة 42): «أعرف الأمير محمد بن سلمان منذ ثمانية أعوام. تعرفنا في باريس عن طريق جوناثان غراي. لقد وجدته لافتاً للأنظار، ولامعاً، هذا الشاب الذي لم يكن حينها غير مجرّد أمير من بين أمراء آخرين، ابن حاكم الرياض: طاقة هائلة، حبّ اطلاع، لطف استثنائيّ، حداثة، توق لرؤية بلده يتقدّم. حسّ مرتفع بالمصلحة العامة وبالجيوسياسة. إرادة نافرة للتعلم وإبداء الرأي، مع رؤية بعيدة الأمد، وهو أكبر جدير بالإعجاب بالنسبة إلى رجل في مثل هذا الشباب. بقينا على اتصال. تابعت صعوده، وأقابله بانتظام. أسعى إلى أن أكون مفيداً له. السبب الذي يدفعني إلى ذلك؟ لا أحد يريد أن يرى النظام السعوديّ ينهار: استقراره أمر جوهريّ لأمن واستقرار واقتصاد الشرق الأوسط والعالم. من جهة أخرى، تمثّل السعوديّة منارة الإسلام السنيّ: تحديثها واستقرارها شرط أساسيّ للسلام العالميّ. يجسّد هذا الأمير الحداثة والاستقرار: نجاحه يصبّ في مصلحتنا... ثمّ قصّة الأب والابن، الملك العجوز وأميره الشاب المتّقد حماسةً وكفاءة ومُثلاً، مهتم باحترام التقاليد والتعزيز الثقافيّ، مبهرة! إنها تستحق شكسبير».
يا إلهي! وكأننا نقرأ تقارير صحافة تحيّي عودة إدوارد دلادييه بعد توقيعه معاهدة ميونيخ... تلك هي الأطروحة التي تحاول كريستين أوكرانت استعادتها في خلاصتها التي أضافت فيها إحدى أكثر الملاحظات ملاءمة حول الديكتاتوريّة الوهابيّة: «أصوات الله». وكما هو واضح، كُتب هذا الهراء قبل أن تتحوّل السعوديّة إلى بابا نويل وترتكب قذارة، قطّع خلالها خمسة عشر مخبراً ــــ أرسلوا خصيصاً إلى إسطنبول ــــ المسكين جمال خاشقجي بواسطة منشار، وقد كان هذا الأخير نفسه عنصر تأثير سابقاً ضمن الأجهزة السعوديّة، وجهاديّاً سابقاً معجباً بأسامة بن لادن، قبل أن يتحوّل إلى صحافيّ مدافع عن حقوق الإنسان وقارئ لمونتسكيو.
قبل إنهاء هذا العمل الممل والمدهش، يجب أن نذكر ما ورد فيه من أوامر اتباعيّة محافظة ــــ جديدة: الإسرائيليّون لطفاء، الإيرانيّون أشرار وحزب الله اللبنانيّ إعادة تجسيد للشيطان... وضمن هذا الخليط الأيديولوجيّ، لا يوجد ذكر لكتاب الدبلوماسيّ جان ــــ ميشال فولكيّ الأساسيّ، «السعوديّة، الديكتاتوريّة المحميّة»، الذي طبع في دار نشر «ألبان ميشال» في شباط 1995، وكتاب عالم السياسة رينيه نبعة، «السعوديّة، مملكة غياهب: الإسلام رهينة للوهابيّة»، الذي طبع في دار نشر «غولياس» في تشرين الأول 2013، ولا أيّ من الأعمال المرجعيّة للسفير السابق ميشال ريمبو وآلان شوي، المسؤول السابق في جهاز الاستخبارات الخارجيّة الفرنسيّة.
وعلى أيّ حال، تعلمنا جيداً، من «كتب» كريستين أوكرانت السابقة ــــ التي تقطر من البرميل ذاته ــــ نصائح «ملكة» تعزيز الجمود الأيديولوجيّ: هيلاري كلينتون لطيفة للغاية، باراك أوباما عظيم، بوتين مؤذ، وترامب يبقى شريراً ــــ طبعاً ــــ لكن لا يمكن التنبؤ به! وفي واقع الأمر، تقترب الجيوسياسة، طبقاً لأوكرانت، من فيلم «عالم القردة»...
مسك الختام: في 10 تشرين الأول الماضي، أجابت السيدة عن أسئلة مجاملة من مخادعي البرنامج الصباحيّ في إذاعة «فرنسا الثقافيّة» للترويج لعملها العظيم.
على خطى الاستشراق الذي فكّكه إدوارد سعيد على نحو رائع (1978)، لم تتردد في إطلاق نداء لمستمعي الإذاعة العموميّة: «يجب أن نسعى إلى فهم السعوديّين وحضارتهم... لأنه ما زال يمكن للشرق... أن يضرجنا بالدماء» (حرفياً). ثقيلة، ثقيلة جداً حدّ البلاهة...
بعيداً عن أنّه منذ اتفاقيّة سايكس ــــ بيكو (16 أيار 1916)، دون العودة إلى الحروب الصليبيّة، كان الغرب بالأحرى هو من «يدمي» الشرق بوعي وعلى نحو منتظم، كلامها سباحة في الذعر الأسطوريّ. كما يقول أتالي (الذي يحظى بعقد ضخم بصفته مستشاراً في السعوديّة)، من «مصلحتنا» أن «نفهم» من هم هؤلاء الناس العجيبون!
في ختام عموده «بيشون في بلاد الزنوج»، يخبرنا رولان بارت أنّ إحدى أعظم تبعياتنا هي «الطلاق الفادح بين المعرفة والأسطورة. العلم يسير بسرعة وإلى الأمام في دربه، لكنّ التصورات الجماعيّة لا تلحق به، إنّها متخلّفة عنه بقرون، ظلت تراوح في الخطأ بسبب السلطة والصحافة وقيم النظام» ( رولات بارت، أسطوريات، ترجمة قاسم المقداد، مركز الإنماء الحضاريّ، حلب، 1996، ص 79- 82).
آخر تحذيرات الاستراتيجيّة العملاقة (دائماً على أثير «فرنسا الثقافيّة»): «تذكروا أنّ 300 صاروخ (حرفياً) بحوزة حزب الله موجّهة يوميّاً نحو إسرائيل...». وحول هذا الملف، أساءت السيدة قراءة صفحة «ويكيبيديا»، لأنّه سيكون من الأعدل القول بضعة آلاف، والتدقيق أنّ طائرات تل أبيب وسفنها تنتهك ــــ بشكل يكاد يكون يومياً ــــ الفضاء الجويّ والمياه الإقليميّة اللبنانيّة، دون الحديث عن الغارات المتكرّرة في سوريا، التي تتم خارج أيّ شرعيّة دوليّة. لكنها على غرار أسيادها المحافظين الجدد، تزرع «ملكة» الأفكار الجاهزة السخط الانتقائيّ...
لا يمكن إلا أن نرثي هذا الكتاب المزيّف الذي يساهم في مفاقمة الاحتباس الحراريّ، باعتبار الأشجار التي قطعت لتحضير الورق المستخدم في طباعته... أخيراً، ولفهم دواليب الديكتاتوريّة السعوديّة، نحيلكم على الأعمال التي ذكرناها سابقاً، فهي بلا شكّ قيمة أكثر من مذكرات المراهقة التي كتبتها مدلّلة تائهة داخل الديكتاتوريّة الوهابيّة.
* رئيس تحرير موقع
prochetmoyen-orient.ch