«عتّمت الدني ولسّة بوجهنا ساعتين لنوصل... الله يسامحك». يقول شريكنا في سيارة الأجرة مخاطباً السائق. يصمتُ الأخير لحظات، قبل أن يجيب بغضب مكبوت: «وشو طالع بإيدي؟ بطير يعني؟»، قبل أن ينهي كلامه بشتيمة من العيار الثقيل. كانت سيارتنا قد انطلقت قبل ثماني ساعات من اللاذقية، وبقيت أمامنا الساعتان الأخيرتان الأصعب، وسط ظلام مطبق، وأصوات طلقات وقذائف بعيدة حيناً، ونكاد نشمّ رائحتها حيناً آخر. فيما مضى، كان الطريق بين المدينتين (185 كم) نزهةً لا تستغرق أكثر من ساعتين ونصف ساعة، عبر إدلب وريفها.

انطلقنا من اللاذقية جنوباً في اتجاه طرطوس (90 كلم)، ومنها شرقاً نحو حمص (95 كلم). ثم السلمية في الشمال الشرقي (45 كلم). لنقطع منها نحو حلب مسافةً تزيد على 200 كيلومتر، شرقاً الى الشيخ هلال ثم أثريا، فشمالاً نحو خناصر. محاذين سبخة الجبول نحو السفيرة في ريف حلب الجنوبي ــــ الشرقي، فغرباً نحو الشيخ سعيد بوابة حلب على ريفها الجنوبي. لندخل حلب بعد تسع ساعات مليئة بعشرات الحواجز. الوحشة تطبق على المُحلّق. المنطقة التي تمثل بوابة الواصلين من غرب البلاد وجنوبها لطالما كانت حاضناً لسهرات الحلبيين حتى الصباح، لكنها في الثامنة من مساء ذلك اليوم كانت خاليةً إلا من بضع سيارات مستعجلة، شأنها في ذلك شأن معظم الطرقات الموصلة إلى «محطة بغداد». الحي الذي كان محسوباً على وسط المدينة، وبات على مشارف «خط التماس».

الحياة تستمر... والنشاط التجاري أيضاً!

تعوّدت المدينة النوم باكراً، كما الاستيقاظ باكراً. باتت المحال تفتح أبوابها منذ السابعة بعدما كان معظمها، قبل الحرب، يتمطّى حتى الظهيرة. «الأحياء الغربية» لا تزال تحت سيطرة الدولة السورية، ويسكنها أكثر من نصف سكان المدينة. معظم الدوائر الحكومية التي كانت تتركز في مناطق السبع بحرات وباب جنين وباب الفرج التي باتت خطوط تماس أوجدَت لها مقاراً بديلة هنا. حيّا الجميلية والفيض صارا بمثابة وسط البلد. خطوط النقل العامة تنطلق منهما، بعدما عُدِّلت مساراتها لتتواءم مع إغلاق طرقات رئيسية عدّة. قذائف الهاون والصواريخ خطرٌ يهدد الجميع، ولا يكاد يمر يوم من دون أن تتسبّب في سقوط ضحايا. برغم ذلك، فإن حركة البيع والشراء تكاد لا تهدأ جرياً على عادة العاصمة الاقتصادية للبلاد. «البسطات» هي العنوان الأبرز. بسطاتٌ تبيع كلّ ما يخطر في البال، وتنتشر في كل الأمكنة بما فيها «الأرستقراطية» منها مثل الفرقان وحلب الجديدة. وإذا كان استمرار هذا النوع من النشاط التجاري طبيعياً، فإن الخارج عن المألوف هو قدرة المدينة على الاستمرار في تصدير بعض البضائع إلى خارج البلاد! فعلى الرغم من الأضرار التي طاولت مصانع حلب الكبيرة، يستمر العمل في مصانع وورش أخرى، وخصوصاً مصانع الأقمشة وورش الخياطة، وإن بوتيرة أقل. يشترط أبو إبراهيم (صاحب ورشة خياطة) ألا نذكر اسم الحي الذي انتقلت إليه ورشته «أحسن ما نفتح العين علينا». يقول لـ «الأخبار»: «توقفنا عن العمل ثلاثة أشهر. وحين اكتشفنا أن الحكاية طويلة، لم يكن أمامنا بدٌّ من معاودة العمل. استأجرنا قبواً كبيراً في منطقة آمنة نسبياً. وبصعوبة، تمكنّا من نقل جزء من الآلات، وواصلنا العمل، لكننا صرنا نعتمد على أنفسنا، أنا وشقيقي وأبنائنا. لم نعد قادرين على تشغيل أحد». معظمُ الإنتاج يُصدّر خارج البلاد، عبر البوابة التركية. وبطبيعة الحال، ثمة صعوبات كبيرة تواجه أبو ابراهيم وأمثاله. الكهرباء مقطوعة على نحو شبه دائم. يعتمدون على المولدات، والوقود في كثير من الأحيان عملة نادرة، كما أن نقل البضائع، قبل التصنيع وبعده، ليس أمراً سهلاً ويكلّف مبالغ كبيرة، إن لجهة أجور النقل، أو لجهة «الخوّات» التي تدفع إلى الحواجز التي يجب المرور عبرها. ودائماً في ظل خطر مصادرة جهة ما البضائع.
لا يعني هذا أن كلّ شيء بخير. المتضررون كثر. الأصح أن الجميع متضرر، لكن بنسبٍ متفاوتة. أمجد كان صاحبَ متجر مرموق لبيع الألبسة الجلدية المستوردة، تحوّل اليوم صاحب دكان صغير لبيع الخضار وبعض المواد الغذائية. سامر الذي خسر مصنعه لإنتاج المواد البلاستيكية، يكسب رزقه من أجور النقل عبر سيارة «سوزوكي» صغيرة، هي كل ما تبقى من سياراته الأربع التي كان يوظّف سابقاً سائقين لنقل بضائعه بواسطتها. الأمثلة كثيرة.

معبر الموت

لم يتغير شيء منذ آخر زيارة إلى معبر بستان القصر الشهير المتاخم لحي المشارقة، وهو النقطة الوحيدة للتنقّل بين الأحياء الغربية الواقعة تحت سيطرة الدولة، والشرقية الواقعة تحت سيطرة المسلحين. الآلاف يعبرون يومياً بين الجهتين. لا يزال في الإمكان استئجار كراسٍ متحركة لنقل المُقعدين وكبار السن، وعربات حديدية لنقل البضائع، لكن بعد دفع الرسوم إلى «الهيئة الشرعية» التي رفعت أخيراً قيمة «رسم المعبر» من 25 ليرة فقط (أقل من ربع دولار) الى 2525 ليرة (حوالى 16 دولاراً). ويُمنع نقل الأغذية من الأحياء الشرقية (أرخص نسبياً)، كبضائع أو في أيدي المارّة. وكثيراً ما يعتقل المسلحون المسيطرون على المعبر مدنيين يحاولون إخفاء بعض الأغذية بتهمة «التهريب إلى مناطق النظام».
الموتُ المحوّم فوق المعبر ينتظر إشارة من رصاص قنّاصين لا موعدَ لانطلاقه. يمتدّ المعبر على مسافة مكشوفة تقارب كيلومتراً واحداً، ويجري عبورها ركضاً. وهناك من يضطر إلى اجتيازها مرتين في اليوم الواحد. يقول مصطفى: «أنا من سكان السكري. أعمل في محل لصناعة الحلويات في الفيض. عليّ اجتيازُ المعبر صباحاً ومساء. لم يعد الأمر يخيفني، فالموت موجود في كل مكان. في بيتي أنا مهدد ببرميل قد يسقط في أية لحظة. وفي عملي بقذيفة هاون لا موعدَ لها. وقفت ع رصاصة القناص ع المعبر؟».

سكان الأحياء الشرقية: أمران... أحلاهما مرّ

تتسم معظم الأحياء الشرقية التي تقع تحت سيطرة المسلحين منذ أكثر من عام بالفقر. ومع ظهور هؤلاء إلى العلن، وتمركزهم في المدارس وبعض البيوت اختار كثير من سكان تلك المناطق الانتقال إلى الأحياء الغربية. لم تكن المدينة آنذاك مقسومة على هذا النحو، ولم تكن للمعبر وظيفته الحالية. حلّ قسم من الوافدين ضيوفاً لدى أقارب لهم أو توزّعوا بين المدينة الجامعية وعدد من المدارس والمساجد. انقضت الشهور ولم تنتهِ أزمة النزوح، فانتقل عدد من العائلات إلى بيوت مستأجرة الأمر الذي كان فوق القدرة المالية لمعظمها. وجد هؤلاء أنفسهم مضطرين إلى العودة إلى بيوتهم، وخصوصاً مع انتشار أخبار عن قيام مسلحين بالسطو على المنازل الخالية من سكانها، ومع اضطرار أغلب الجمعيات إلى التوقف عن تقديم الدعم إلى مراكز الإيواء المؤقت. تقول أم إبراهيم: «ما قدرنا نتحمل الذل. منموت ببيوتنا أشرف». وجد العائدون أنفسهم يعيشون جنباً إلى جنب مع مسلحين قلّةٌ منهم من أبناء تلك الأحياء. وفي ظل ظروف سيئة. قبل أن يتحولوا إلى هدف دائم لقذائف المدفعية والبراميل المتفجرة التي تنشط بين حين وآخر. التيار الكهربائي أمرٌ نسيه الناس، ولم تعد الإصلاحات أمراً مجدياً بعدما سرق المسلحون معظم الكابلات وباعوها نحاساً مصهوراً! المولدات الكهربائية منتشرةٌ بكثرة. ويمكن لمن يرغب أن يحصل على كمية من «الأمبيرات» لقاء اشتراك شهري، وقد تحوّل بيع الكهرباء المُنتجة عبر مولدات صناعية ضخمة مهنة للبعض، وهم بمعظمهم من «المدعومين» من المجموعات المسلحة. يؤكد فراس لـ «الأخبار» أن «معظم هذه المولدات أرسلت من هيئات ومنظمات وحكومات خارجية كمعونات فجرى بيعها». والأمر نفسه ينطبق على معظم المواد التي يجري إرسالها كمعونات، وتتحول إلى مبيعات، بدل أن تقوم المجموعات المسلحة والهيئة الشرعية بتوزيعها. يقول أبو صفوان «لو كان حاميها حراميها كنا رضينا بما كُتب لنا. لكنهم يسرقوننا من دون أن يكونوا قادرين على حمايتنا». ثم يقول لأحد الشبان «يا محمد احكيلو عن حسن». يبتسم محمد: «إش بدي إحكيلك يا أستاذ. من صغرو كان يسرق من جيب أبوه. ووقت صار شب انسجن كذا مرة. مغضوب الوالدين هلأ صار إلو لحية، وصار مسؤول توزيع المعونات». وأمام تساؤلاتنا المشككة، يقول محمد: «طبعاً متأكد. هاد أخوي يا أستاذ»!
المتنبي، أعظم شاعر عرفته حلب، قال يوماً في مديح أميرها سيف الدولة «كأنك في جفن الردى وهو نائمُ». اليوم صارت المدينة، كلها، في جفن الردى.




حكايات الموت لا تنتهي

القواسم بين الأحياء الشرقية والغربية كثيرة، لكنّ حكايات الموت تبقى القاسم المشترك. تروي أماني (25 عاماً) لـ «الأخبار» حكايتها: «كنا نسكن في قسطل حرامي، أنا وزوجي وابنتي الوحيدة. استيقظت ذات يوم ولم أجده. بعد ساعات رنّ هاتفي، وفوجئت بصوت غريب يقول لي: السلام عليكم. لقد ذبحت زوجك. سامحيني». تغص أماني بدموعها، قبل أن تشرح أن المتصل كان يتولى التفتيش على حاجزٍ للمسلحين. وزعمَ بأنه عثر في جيب زوجها عند تفتيشه على «بطاقة شبيح». لاحقاً اكتشفت الشابة الأرملة أن القاتل كان يعني بطاقة عمل زوجها في أحد المصانع الكبيرة المملوكة لرجل أعمال جرى تصنيفه «شبّيحاً».
بدوره، يحكي منير كيف فقد والده: «نسكن في الأنصاري (من الأحياء الشرقية). في ذلك اليوم ذهب ليزور شقيقتي المتزوجة التي نزحت إلى المدينة الجامعية. كانت المرة الأولى التي يذهب فيها إلى الأحياء الغربية منذ ستة أشهر. وكان يمازحنا في الصباح قائلاً سأذهب اليوم إلى المناطق الآمنة. لكن الموت كان بانتظاره في الجميلية. حيث سقطت قذيفة هاون».
أما جمال، فيروي واحدةً من أشد القصص مأساوية: «أسكن وأسرتي في الكلاسة. في بناء يسكنه أشقائي المتزوجون الثلاثة. غادرت المنزل في السابعة صباحاً إلى العمل. بعد ساعات علمت أن قذيفة مدفعية سقطت في حيّنا فرجعتُ لأطمئن. لكن البناء بأسره كان قد اختفى. فقدتُ الجميع».
حكاياتٌ هي غيضٌ من فيض حكايات الموت التي لا يخلو يومٌ حلبيٌّ منها.