القاهرة | تتعامل الحكومة المصرية مع المواطنين كأنهم ملّاك في شركة مساهمة يجب عليهم دفع الأموال طوال الوقت من أجل الحصول على أي خدمات، حتى في أبسط الحقوق التي يسددون عليها ضرائب، رافعة شعار انتهاء زمن الخدمات الحكومية المجانية، ولو كانت في التعليم. فقبل أيام قليلة، زادت الحكومة أسعار أكياس الدم أربعة أضعاف، وقبلها أقرت قرارات زادت فيها أسعار الأدوية وكلفة الإنتاج ضمن سياسة تطبقها لتوفير العلاج بسعر تكلفته وتحقيق أرباح لشركات الأدوية، الأمر نفسه الذي انطبق على الزيادات المضطردة التي حدثت في أسعار المستشفيات الحكومية خلال السنوات الأخيرة.هذه المرة لم يكن الأمر مرتبطاً بالصحة، بما أن القطاعات الأخرى صارت في حكم الغلاء من دون اعتراض، بل جاء الدور على التعليم. في هذا القطاع، أقر الرئيس الراحل جمال عبد الناصر قبل عقود أن يكون مجانياً، النظام الذي استفاد منها حتى وزير التعليم الحالي الذي درس في مدارس حكومية قبل أن يلتحق بالجامعة الأميركية التي مكنته من إجادة الإنكليزية بطلاقة.
تقول الأرقام الرسمية إن ميزانية «التربية والتعليم» تفوق 120 مليار جنيه (750 مليون دولار تقريباً) سنوياً، لكن الموازنة التي تقرها الحكومة للتعليم المجاني تلتهم فيها الأجور الجزء الأكبر، فيما ينفق جزء رئيسي على زيادة بناء المدارس وتطويرها لاستيعاب الأعداد المتزايدة من الطلاب. لكن ذلك يجري وسط عجز وزاري واضح منذ سنوات في التعامل مع الخلل في منظومة التعليم مقابل إحكام السيطرة على التعليم الأجنبي الذي حل بديلاً عن المجاني وتوسعت مدارسه بصورة غير مسبوقة خلال العقدين الماضيين.
الوزير طارق شوقي، الذي صرح العام الماضي بأنه تلقى تعليماً راقياً في الستينيات، هو نفسه الذي وصف مجانية التعليم أخيراً بأنها «ظلم اجتماعي» لأن الدولة تنفق الكثير من الأموال في غير محلها بينما يدفع المواطنون 20 ألف جنيه لتذاكر حفلات عمرو دياب! صحيح أن شوقي عدّل في تصريحاته التي نقلها نواب في البرلمان، متراجعاً بالقول إنه كان في اجتماع مغلق، ولم يكن من المناسب التسجيل له وإخراج تصريحاته إلى العلن. وكان النواب في تلك اللحظات يستمعون لرؤيته عن العمل خلال المرحلة المقبلة في ظل التعديلات التي وافق عليها البرلمان أخيراً في شأن نظام التعليم من دون المساس بالمجانية التي زادت رسومها الرمزية خلال آخر عامين على نحو غير معلن وبنسب قليلة.
اقتطع الوزير شوقي من مبلغ إعمار المدارس لشراء أجهزة «التابلت»


ويركز وزير التربية والتعليم الآن على عملية التطوير، كما يقول، مغفلاً خلق أي مناقشات أو الاستجابة لأي آراء معارضة، علماً أنه اقتطع ملياري جنيه من ميزانية هيئة الأبنية التعليمية المخصصة لبناء فصول ومدارس جديدة (من أجل تخفيف الكثافة بالمدارس واستيعاب الأعداد الكبيرة من الطلاب في مناطق وصلت فيها كثافات الفصل الواحد إلى 70 و80 طالباً) من أجل توفير أجهزة «التابلت» للنظام الجديد للثانوية العامة، على رغم أن «التابلت» مجرد وسيلة، وكان يمكن تأجيلها وإبقاء الدعم لبناء المدارس.
وأغفل شوقي أن المبلغ الذي اقتطعه كان يمكن أن يحل أزمة طاحنة دفعت الرئيس عبد الفتاح السيسي إلى إعلان إلغاء العلاوة الدورية لموظفي الدولة للمرة الأولى في موازنة العام المقبل، وذلك لتوفير تكلفة بناء 250 ألف فصل تحتاجها المدارس بسرعة، خصوصاً أن عدداً من المدارس اضطرت إلى إلغاء منطقة «الحوش» (الساحة) التي يمارس فيها الطلاب التروض خلال الفسحة أو الألعاب، كما ألغت غرف الموسيقى والأنشطة لتتحول إلى فصول دراسية.
هكذا، تحولت «التربية والتعليم» التي يفترض أنها وزارة خدمية يسعى وزيرها إلى إقامة «وقف مصري لخدمة التعليم» إلى أداة استثمار كي تستطيع قبل نهاية الشهر الجاري سداد تكلفة رواتب الموظفين، فهي قد رفضت تعيين المعلمين مكتفية بتعاقدات موسمية، وحصلت على تعديلات على قانون التعليم لشروط تعيين المعلم المساعد، واختيار مديري ووكلاء المدارس. واستثنت تلك التعديلات خريجي كليات الخدمة الاجتماعية من الحصول على التأهيل التربوي كشرط للتعيين الذي صار لمدة عامين قابلة للتجديد بدلاً من التعيين مدى الحياة حتى بلوغ سن التقاعد (60 سنة)، بل اشترطت لاستمراره حتى التقاعد حصول المعلم المساعد على شهادة صلاحية من «الأكاديمية المهنية للمعلمين لمزاولة المهنة» خلال ثلاث سنوات كحد أقصى. أيضاً استثنت المادة الاختصاصيين الاجتماعيين والنفسيين ومتخصصي التكنولوجيا والصحافة والإعلام وأمناء المكتبات من شرط الحصول على شهادة الصلاحية.
بذلك، ترغب الوزارة في استمرار التزام القرار الرسمي الساعي إلى خفض عدد العاملين في القطاع الحكومي بتعاقدات دائمة، على رغم خروج آلاف المعلمين سنوياً على التقاعد، لكنها لا تعين بدلاء عنهم. أياً يكن، لا يوجد حتى الآن مشروع قانون مكتوب لتعديل مجانية التعليم التي ترى الدولة أنها تنفق فيها أكثر مما تجني في ظل انتشار مراكز الدروس الخصوصية التي لم تستطع السيطرة عليها. لكن ما يجري الإعداد له حالياً هو محاولة تقنين التعليم المجاني ما دامت الصيغة والإطار لم تتبلور بعد.