على امتداد أكثر من عامين، لم تشهد العلاقة بين حكومة يوسف الشاهد و«الاتحاد العام التونسي للشغل»، أكبر تجمع نقابي في البلاد، وتيرة مستقرة. تشتد حدة التصريحات والتحركات تارةً، وقد بلغت ذروتها مع المطالبة بالتخلي عن الشاهد بداية هذا العام، وتلينُ تارة أخرى، كما حصل لوقت محدود بعد توقيع اتفاق الزيادة في رواتب موظفي القطاع العام، قبل أقل من شهر. اليوم، بعد سلسلة من الاجتماعات التفاوضية، قرر «اتحاد الشغل» نقل النزاع من ميدان التصريحات إلى الأفعال، بتنظيم إضراب عام في قطاع «الوظيفة العمومية»، الذي يشمل أغلب موظفي الدولة. شهد الثلاثاء الماضي، ثالث لقاءات الشاهد بالأمين العام للاتحاد النقابي، نور الدين الطبوبي، وقد كان آخرها، حين خرج الأخير معلناً إيقاف التفاوض والوصول إلى طريق مسدود، وصرح آسفاً بأن «قرار تفعيل الزيادة في أجور الوظيفة العمومية، لم يعد قراراً سيادياً وطنياً، بل ينتظر الضوء الأخضر من وراء البحار».يشير هذا التصريح إلى أحد أكبر مآخذ «اتحاد الشغل» على الحكومات التونسية المتعاقبة بعد سقوط بن علي، أي العلاقة مع «المقرضين الدوليين». ترى المنظمة النقابية أن الاتفاقيات الموقَّعة مع «صندوق النقد الدولي» و«البنك الدولي»، وغيرهما من المؤسسات المالية، ترتهن السيادة الوطنية، وتفرض على تونس سياسات اقتصادية لا تصب في مصلحة القطاع العام وموظفيه، اللذان يمثلان في رأيه السند الرئيسي للتنمية والاستقرار الاجتماعي.
من جهتها، ترى الحكومة أن الاقتراض ضرورة تمليها التطورات، إذ تسجل الموازنة العامة عجزاً سنوياً متفاقماً، لا يُمكن تغطية إلا بالاقتراض (وبتشديد الضغط الضريبي، الذي يجري سنوياً أيضاً). وتتبنى الحكومة مقابل القروض برنامجاً «إصلاحياً»، يستهدف في السياق التونسي (الذي يتشابه مع السياق العربي بصفة أعمّ) تجميد انتداب الموظفين العموميين، والخفض في عدد الموجودين حالياً، وخصخصة أكبر عدد ممكن من شركات القطاع العام، وتحرير العملة، ورفع الدعم عن الطاقة والقطاعات المرتبطة بها.
هنا تكمن العقدة، أي بين برنامج ليبرالي يقلص أدوار الدولة، ومطالبات اجتماعية بالتشغيل ورفع الأجور. تقول الحكومة إن الدولة عاجزة عن تحقيق المطالبات، بسبب تراجع مداخيلها وارتفاع مصاريفها، ويجيب «اتحاد الشغل» والحركات الاجتماعية، بأنه يمكن تأمين مداخيل عمومية عبر تصميم نظام جبائي أكثر عدلاً، والتقليص في حجم الاقتصاد غير المنظم، القائم على التهريب (تقول تقديرات رسمية، وأخرى صادرة عن مؤسسات دولية، إن القطاع غير المنظم يشمل أكثر من نصف النشاط الاقتصادي الإجمالي).
تكمن العقدة بين برنامج ليبرالي ومطالبات اجتماعية بالتشغيل ورفع الأجور


توجد الكثير من التفاصيل المهمة في هذا السياق، لكن الأهم اليوم، حالة الانسداد التفاوضي التي تهدد بفتح أفق صراع قد لا يصب في مصلحة أحد. لا تريد الحكومة التصادم مع منظمة نقابية، تشمل قاعدتها الاجتماعية، مجمل الموظفين العموميين، أي القطاع الأوسع من الطبقة الوسطى، كذلك لا يبدو «اتحاد الشغل» راغباً في الدخول بـ«صراع وجودي» مع حكومة لها قاعدة سياسية واسعة، ويرأسها شاب في بداية مشواره، يبدو مستعداً للمقامرة، مستنداً إلى شرائح اجتماعية واسعة، لا تمثلها النقابة. لكن، بخصوص هذه النقطة الأخيرة، يبدو أن «الاتحاد العام التونسي للشغل»، قد جهز نفسه، وتجنب أخطاء سابقة. يشمل الإضراب مئات آلاف الموظفين، في قطاعات التعليم المختلفة، والصحة، والإدارات، وحتى الديبلوماسية (يشارك هذا السلك لأول مرة في احتجاجات من هذا النوع، عبر الإضراب في تونس، وحمل شارات حمراء في السفارات والقنصليات)، ويتوج بتجمعات احتجاجية أمام مقر البرلمان ومقارّ النقابة. مع ذلك، لن يشمل الإضراب الأقسام الاستعجالية في المستشفيات، ولا قطاعَي البريد والنقل، ولهذا الأخير، أهمية قصوى، فتعطيله يعني أن جزءاً كبيراً من موظفي القطاع وعماله، لن يلتحق بالعمل مجبراً، ما سيرتد سخطاً على «اتحاد الشغل».
توجد نقطة أخرى مهمة، هي الرهان السياسي للإضراب. كما ذكرنا آنفاً، طالب «اتحاد الشغل» في فترة ما، بتغيير يوسف الشاهد، لكنه تراجع عن طلبه هذا تدريجاً، وقد كان أحد دوافع ذلك تجنب توريط المنظمة في صراع حزبي. اليوم، يعود هذا الجدل مرة أخرى، إذ يصبّ الأمر عملياً في مصلحة حركة «نداء تونس» ورئيس الجمهورية وخصوم الحكومة الحزبيين، الذين يصرون على فشلها في إدارة البلاد، وهذا صراع لا يحمل فقط طابعاً عادياً، بل يرتبط بنزعات تَوريثيّة وزعاماتية، ويهدد بالإضرار بصورة النقابة، التي ترسخت بعد توليها الدور الأهم في تنظيم «الحوار الوطني» بين الأحزاب عام 2013، كقوة وطنية غير منحازة.