منذ إعلان الجولة الخارجية لولي العهد السعودي، محمد بن سلمان، ببيان صادر عن الديوان الملكي، لم يُفصَح رسمياً عن هوية الدول التي سيحطّ فيها الرجل، قبل انتهائه إلى الأرجنتين، حيث تُعقد «قمة العشرين» أواخر الشهر الجاري. اقتصر الأمر على تسريبات إعلامية اجتمعت على أن كلاً من الإمارات والبحرين ومصر وتونس والجزائر وموريتانيا ستشكّل المحطات العربية الستّ في تلك الجولة. غموض ينبئ بحذر في عملية كسر الجمود الديبلوماسي، وإن كانت العملية بحدّ ذاتها تؤشّر على «انتعاش» سعودي أحدثه الدعم «الترامبي» غير المحدود لابن سلمان. هذا الحذر يبدو مثيراً للانتباه أنه ينسحب كذلك على الدول التي سيزورها ولي العهد، أو تلك التي سيستثنيها على رغم أنها الأقرب إلى الرياض. وهو ما يؤكد، إلى جانب معطيات أخرى، أن الأزمة التي تعيشها المملكة لا تزال مفتوحة على احتمالات كثيرة، قد لا تكون سارّة للأمير الشاب.يوم أمس، وصل ابن سلمان إلى العاصمة المصرية القاهرة قادماً من البحرين، في ظلّ احتفاء رسمي خجول، وردود فعل رافضة للزيارة. ردود مثّلت، إلى جانب عدم الإعلان رسمياً عن جدول أعمال الجولة الخارجية الأولى من نوعها منذ مقتل الصحافي جمال خاشقجي (2 تشرين الأول/ أكتوبر)، عوامل تأثير معاكسة للغرض الذي أراده ابن سلمان من وراء تحرّكاته، وهو تلميع صورته وحشد التأييد لشخصه. إذ إن سلسلة المواقف الداعية إلى عدم استقبال الرجل أظهرت أن تداعيات اغتيال خاشقجي أصبحت أكبر من قدرة الرياض على حصرها، والأهم أنها أعادت إحياء الآثار الكارثية للمغامرات التي خاضها ولي العهد على غير جبهة (وفي مقدمها العدوان على اليمن) على نحو غير مسبوق، وجدت سلطات الدول المقصودة نفسها إزاءه عاجزة عن الردّ، إلى حدّ أنها تستحي إلى الآن من إعلان نبأ الاستقبال. أما الدول التي لن يحطّ فيها ابن سلمان، فإن استثناءها يرسم، هو الآخر، علامات استفهام، حول ما إذا كانت قياداتها تتحسّب لاحتمال أن تؤول القضية ـــ في نهاية المطاف ـــ إلى إزاحة الأمير الشاب من المشهد.
تبذل السعودية أقصى جهودها لاستبقاء الدعم «الترامبي»


هذه العوامل «السلبية» بالنسبة إلى العهد الجديد، يضاف إليها التصويب التركي المستمرّ على السعودية على خلفية حادثة القنصلية، والذي يستهدف إبقاء الواقعة حيّة، وعدم فسح أي مجال أمام الرياض للتحرّر من الضغوط التي تلاحقها. غرض يؤكده تعمّد السلطات التركية إضافة عنصر جديد إلى روايتها بشأن مقتل خاشقجي، في الوقت الذي يحاول فيه ابن سلمان طيّ صفحة القضية، علماً أن لا شيء في ما كشفته أنقرة خلال الساعات الماضية يشي بأنه لم يكن متوافراً لديها منذ زمن. إذ أفاد المحققون الأتراك، أمس، بأنهم اكتشفوا وجود اتصال هاتفي بين أحد أعضاء فريق القتل وصاحب «فيلا» في ولاية يالوا، لتعلن النيابة العامة التركية إثر ذلك أن الاتصال المذكور تمحور حول كيفية التخلّص من جثة خاشقجي. وأوضح البيان الصادر عن النيابة أن شخصاً يُدعى منصور عثمان أبو حسين، تواصل مع صاحب «الفيلا» المدعو محمد أحمد الفوزان، في الـ1 من تشرين الأول/ أكتوبر (أي قبل يوم من اغتيال خاشقجي)، وتباحث معه في طريقة إخفاء الجثة بعد تقطيعها.
هذا الضخّ التركي في اتجاه منع تمويت القضية، يسانده ازدياد الأصوات الأميركية الرافضة لتبرئة ابن سلمان، والمطالِبة بمحاسبته. وهي مطالبات لا تقتصر على الحزب الديمقراطي، بل تشمل أيضاً جمهوريين باتوا يعتقدون أن على الكونغرس اتخاذ إجراءات إضافية بمواجهة السعودية. وأكد السيناتور الجمهوري، مايك لي، ليل الأحد ــ الاثنين، أن تقديرات ترامب «لا تتّسق مع المعلومات المخابراتية» التي تؤكد تورّط ولي العهد في حادثة قتل خاشقجي. ووصف الحرب على اليمن بأنها «غير قانونية وغير دستورية»، داعياً الكونغرس إلى أن يغتنم «الفرصة» ويبذل جهوداً لإيقافها، مشدداً على أن ابن سلمان «ليس حليفاً يستحقّ التدخل العسكري». ورأى السيناتور الجمهوري، جوني إرنست، من جهته، أنه «إذا كانت هناك مؤشرات على أن الأمير تورّط في القتل، فعلينا حتماً أن ندرس اتخاذ إجراء آخر».
إزاء المطالبات المتقدمة، تبذل السعودية أقصى جهودها لاستبقاء الدعم «الترامبي» لها، وتعزيز أوراق البيت الأبيض في مواجهة خصومه، ومنع انقلاب الموازين لمصلحتهم. وما قيامها برفع إنتاجها النفطي خلال الشهر الجاري إلى أعلى مستوياته على الإطلاق، وفقاً لمصادر في قطاع النفط تحدثت أمس إلى «رويترز»، إلا بعض من تلك الجهود. وبحسب المصادر نفسها، فإن إنتاج السعودية من النفط الخام بلغ في تشرين الثاني/ نوفمبر ما بين 11.1 مليون و11.3 مليون برميل يومياً، على رغم أن استراتيجيتها هذه كانت قد تلقّت ضربة لدى فرض واشنطن عقوبات مخفّفة على طهران، خلافاً للتوقّعات التي منّت الرياض نفسها بها. مع ذلك، تستمرّ المملكة في العمل بما يناقض أهدافها على المستوى الاقتصادي، الأمر الذي لا يفتأ الرئيس الأميركي يستغلّه في الدفاع عن وجهة نظره، حتى بلغ به الأمر إلى حدّ توجيه الشكر إلى نفسه على انخفاض أسعار النفط.