إذا ما قيس ظهور محمد بن سلمان، أمس، في «قمة العشرين»، بزيارتَيه الشهيرتَين لكل من واشنطن ولندن، حيث كانت الشركات ووسائل الإعلام والنخبة السياسية تتلقّاه بالأحضان، يمكن القول إن الأمير الشاب بدا مرتبكاً وحائراً في كيفية الخروج من عباءة «ورطة خاشقجي». لكن ذلك الارتباك لا يعني أن الحلفاء الغربيين باتوا مستعدين للقطع مع ولي عهد المملكة، والذي بات مصيره مرتبطاً بمدى تمكّن دونالد ترامب من حسم «المعركة الداخلية» لمصلحته.لا هو مقبول ولا هو منبوذ. هذا ما يمكن أن يُوصَّف به ظهور ولي العهد السعودي، محمد بن سلمان، في اليوم الأول من «قمة العشرين» المنعقدة في العاصمة الأرجنتينية بوينس آيرس. ظهور يلخّص حسابات كل طرف من أطراف الأزمة المندلعة منذ مقتل الصحافي السعودي، جمال خاشقجي، في قنصلية بلاده في اسطنبول في الثاني من تشرين الأول/ أكتوبر الماضي. ولي عهد المملكة لم يفارق مكابرته المعتادة، محاوِلاً تصدير صورة من القوة واللامبالاة. ساعده على ذلك الترحاب الذي لاقاه به «أصدقاء» لا يجدون أنفسهم معنيين بتوتير علاقاتهم مع الرياض، فيما أربكه تعامل الحلفاء الغربيين الذين راوحت مواقفهم ما بين التجاهل والتظاهر بالحزم. وفي كلتا الحالتين، لا شيء يشي بأن أولئك الحلفاء يمانعون «عودة المياه إلى مجاريها»، إلا إذا مالت الكفة داخل الولايات المتحدة لمصلحة مناوئي ابن سلمان، وهو ما بدأ يواجه عقبات قد تؤدي إلى إفشال مساعي الأخيرين.
وعلى نحو مشابه لِما تمّ تسجيله في جولته العربية التي سبقت «قمة العشرين»، سعى ولي العهد، يوم أمس، إلى الظهور بمظهر الثقة والارتياح والسيطرة، مع فارق أنه بذل هذه المرة جهوداً أكبر مما كلّفه التعريج على تونس مثلاً، حيث كانت في انتظاره تظاهرات غاضبة رافضة لاستقباله. حرص ابن سلمان على توزيع الابتسامات، التي تحوّلت إلى ضحكات عريضة لدى مصافحته الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، الذي بدا أنه يتعمّد إيصال رسالة بعمق العلاقات مع السعودية، سرعان ما تعزّزت بإعلان الرئاسة الروسية عن زيارة لبوتين للمملكة يجري التحضير لها.
كان ابن سلمان أول مغادري المنصة عقب التقاط الصورة الجماعية

هذا الودّ المتبادل استحال حذراً في «الدردشة» التي دارت بين ابن سلمان والرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، لا رغبةً من الأخير في محاسبة الأمير الشاب ومعاقبته، وإنما سعياً لإفهام الرأي العام بأن باريس ترغب في تعامل صارم مع الرجل، علماً بأنها كانت من أوائل الذين بادروا إلى تبرئته من دم خاشقجي، والدعوة إلى ضرورة إغلاق الملف. سيطر الجمود على تعابير وجه ماكرون لدى حديثه إلى ابن سلمان، وتسرّبت من كلامه عبارات من قبيل «أنا قلق» و«أنت لا تستمع لي أبداً»، فيما كان مسؤول في الإليزيه يعلن أن الرئيس أبلغ ولي العهد ضرورة إشراك خبراء دوليين في التحقيقات الخاصة بمقتل خاشقجي، والدفع نحو إيجاد حل سياسي في اليمن. وبالنظر إلى أن السعودية أعلنت غير مرة رفضها تحقيقاً ذا طابع دولي، ملمحة إلى أنها لا يمكن أن تقبل بذلك تحت أي ظرف من الظروف، يصبح المطلب الأول من باب «رفع العتب» ليس إلا، فيما يمكن النظر إلى المطلب الثاني بنوع من الجدية، على اعتبار أن ثمة جواً دولياً ضاغطاً في اتجاه إنهاء الحرب في اليمن.
الأمر نفسه ينطبق على بريطانيا، التي أعلنت على لسان رئيسة وزرائها، تريزا ماي، أنها ستبلغ ابن سلمان أن التحقيق في حادثة القنصلية «يجب أن يكون كاملاً ونزيهاً، وأن تتم محاسبة المسؤولين»، وهو ما لا يخرج عن سياق السردية السعودية التي تبرّئ رأس الهرم، وتلصق الجريمة بمسؤولين «سينالون جزاءهم». كذلك، أعلنت ماي أنها ستحثّ ولي العهد على إيجاد حلّ للوضع في اليمن، على اعتبار أن «هناك فرصة للتوصل إلى حل سياسي، نضمن به مستقبلاً حافلاً بالأمن والسلام لشعب اليمن». وعلى رغم أهمية تلك الدعوات الغربية، إلا أن فاعليتها تظلّ مرهونة بموقف الولايات المتحدة، التي تحاشى رئيسها، أمس، التطرق إلى الملفات السياسية العالقة مع السعودية، قائلاً إن مناقشاته مع ابن سلمان خلال الجلسة الافتتاحية لـ«قمة العشرين» اقتصرت على تبادل «عبارات ودية». موقف يحاول من خلاله ترامب، الذي ألغى لقاءً كان يعتزم عقده مع ولي العهد في بوينس آيرس، تلافي مزيد من السخط الداخلي عليه، وخصوصاً بعدما رفض مجلس الشيوخ مرافعة وزيرَي خارجيته ودفاعه، مايك بومبيو وجيمس ماتيس، الأخيرة عن ابن سلمان، وسارع إلى التصويت على إحالة مشروع قرار بوقف الدعم الأميركي لـ«التحالف» إلى لجنة العلاقات الخارجية.
وعلى رغم أن ثمة ضعفاً واضحاً في موقف ابن سلمان، تحدثت به أمس اللحظات التي أعقبت التقاط الصورة الجماعية لزعماء الدول العشرين، حيث ظهر ولي العهد مربكاً قبل أن يسارع إلى إدارة ظهره ومغادرة المنصّة، وعلى الرغم من أن هذا الضعف قد يمثّل عنصراً مساعداً لمناوئيه في الداخل الأميركي، والذين يريدون من إدارة ترامب سحب البساط من تحت قدميه، إلا أن مآل الأمور لا يبدو محسوماً لمصلحة هؤلاء، إذ إن ثبات موقف الكتلة الجمهورية المناهضة لتعامل البيت الأبيض مع قضية خاشقجي ليس مضموناً حتى نهاية الطريق، فضلاً عن أن الرئيس ربما يتمكّن من إعادة استقطاب تلك الكتلة، باللعب على وتر العوامل التي يمكن أن تثير حساسية حزبه، كالتقرير المحتمل صدوره عن المحقق الخاص روبرت مولر. وما يمكن أن يعزّز موقف ترامب أيضاً هو تخلّي تركيا عن «مغالاتها» بوجه السعودية، الأمر الذي لا يظهر مستبعداً في ظلّ التذبذب المسيطر على موقف أنقرة إلى الآن.