هو يوم في دمشق يعادل عمراً، هو رحلة نحو معرفة ذاتك، وكل الرحلات نقطة انطلاقها «رحم».إن دخلت دمشق عاشقاً للدهشة فكل الأبواب مشرعة، وإن دخلتها مقتحماً الحلم روّضتك كما روّضت كل المجانين الحالمين الذين زاروها، ولقنتهم دروس الصبر والإرادة.
تعال ندخلها معاً من الشرق، ألا يقولون «عز الشرق أوله دمشق»؟

باب توما
من باب توما البداية. من هذه النقطة من سور دمشق خرجت المسيحية إلى العالم. هنا أضيق زواريب دمشق وأكثرها إجادة للتلاعب بالضوء. من هذا الرحم يُخلق كل يوم دمشقي ولو لم يكن من دمشق. يعمّدك باب توما لتصبح شامياً ولو أتيت من أقصى بقاع الأرض. من يعبأ بمن أنجب هذه الطفلة التي تفترش زواريب «باب توما» طالما أنها في عهدة دمشق التي علمتها الفن بحيث تستطيع بألوانها الخشبية المتواضعة وأوراقها القليلة أن تنافس متخرّجي أعرق كليات الفنون الجميلة؟ ترسم رؤى بلهجتها الدمشقية فلسفة البقاء. «أين كنتِ أمس»؟ سألتها.. «المهم أنني هنا اليوم».
تمسك طفلة باب توما يدي وتعيدني إلى «الشارع المستقيم». تشير بيدها الصغيرة «اتبعي الرائحة». أسأل «أي الروائح تقصدين»؟ وألتفت لأراها قد عادت إلى رحمها راكضة. أقف أمام «الكنيسة المريمية» حائرة، أغمض عيني وأصغي إلى الروائح تناديني: ياسمين، نارنج، رائحة طبخ منزلي... أُميّز كل الروائح، إلّا واحدة أجزم بأنها الرائحة التي ذكرتها الصغيرة، فأمضي وراءها، وإذ بي أمام قارورة العطر الأكبر في العالم «البزورية». لو وقف صاحب رواية «العطر» هنا، أما كان أعاد النظر في كثير من تفاصيل حكايته؟

دمشق.. مصنع الحكايات
تقودني «البزورية» إلى الجامع الأموي. وفي «القباقبية» ألمس حجارته الخارجية وأقف تحت «مئذنة عيسى» طويلاً. يبدو أن حارات دمشق قد تقاسمت الحواس الخمس في ما بينها، كلّ أخذت على عاتقها أن تسحر إحدى حواس الزوار. في «المسكية» أقف لأتصور مع الحمام كما يفعل الجميع، أبسط أصابع يدي اليمنى أمامي أعد حواسي الخمس: النظر في باب توما، الشم في البزورية، وهنا لمَستُ الحجارة ولمَسَت مناقير الحمام باطن يدي حين أطعمتها فتات الخبز. بقيت حاستان ضائعتان. دمشق، أتعيدين تعريفي بحواسي؟ أتعيدين خلقي؟ دمشق، خذيني إلى قلب الحكاية. في «النوفرة» جلست وأسلمت نفسي لخمسمئة عام من الحكايات المتواصلة. واهم من يعتقد أن دمشق قد توقفت عن السرد بعد رحيل الحكواتي الأخير. في «النوفرة» سمعت حكاية من سطر واحد أعادت تعريف العالم لي. حدوتة صغيرة على لسان دمشقي عتيق «من أربعين سنة وأنا بطعمي هالحمامات، وبيوم من الأيام يا بنتي مرضت وما قدرت إجي طعميهن، إذا بالحمامات بيلحقوني ع بيتي».

الخروج إلى الواقع
كشهريار أستفيق لأكتشف الخديعة. وكي أنسى المُرّ من التفاصيل: أكوام البشر المنتظرين أمام الأبواب العالية المغلقة، أو المنتظرين «السرافيس» وباصات النقل الداخلي تحت أشعة الشمس الحارقة.. كي أنسى كل التفاصيل المؤلمة، هرعت إلى «الحميدية» طلباً لطفولة قد تهرب من روع هذه المشاهد. طلبتُ البوظة التي يشتهر بها «بكداش»، ومضيت أدور كراقصة باليه تلاحق بقع الضوء المتسلسلة من سقف السوق. أصل نهاية الخشبة آملة أن يمد تمثال بائع عرق السوس يده لي، لأنزل الدرج وأحيّي جمهوري، فإذا به يعتذر لي لأن يده مبتورة.
في «باب شرقي» أستمع إلى الأغنية «بين الكنيسة و بين الجامع بار صغير كل شي جامع». أشرب نخب طفلة باب توما، ونخباً آخر لحمام الأموي، ثالثاً ليد بائع عرق السوس المبتورة، ثم أرحل عن دمشق مترنحة ثملة بحب لا يعرفه كثر.