«واقع معقّد وخادع»، «الخوف من مئات المسلحين يهاجمون المستوطنات والجيش دفعة واحدة». مجمل التقييم الأخير لكلٍّ من رئيس «الشاباك» نداف أرغمان، ووزير الأمن المستقيل أفيغدور ليبرمان، بشأن الضفة المحتلة. وفعلاً، لم يخيّب ظنونهم مقاومو الضفّة (أشرف وصالح ومجد وشهداء أحياء)، وهذه المرة من رام الله، حيث التمركز الأساسي للسلطة الفلسطينية وأجهزتها الأمنية التي اختفت فجأة عند قدوم جنود العدو والتقاطهم الصور التذكارية على دوّار المنارة! لكنّ الثأر جَمَع المقاومين من القدس إلى نابلس، في عمليات منظّمة وأخرى فردية... واشتباك حتى الرمق الأخير.في تكرار لمشهد انتفاضة الأقصى الثانية، أغلق العدو الإسرائيلي مدينة رام الله والبيرة وأعلنها منطقة عسكرية، فارضاً عليها «حصاراً» (فوق حصار) عبر طوق أمني، سادّاً المداخل ومانعاً الحركة من المدينة وإليها. قرارُ الإغلاق، والدفعُ بتعزيزات إضافية من لواء «ناحال» و«كافير»، هما حصيلة ليلة دامية على الفلسطينيين، تبعها صباح دامٍ أيضاً على العدو، وتحديداً جنوده المنتشرين لحماية المستوطنين، رغم أن هؤلاء جُنّ جنونهم من تسارع الأحداث، وانطلقوا للاعتداء على الفلسطينيين في مناطق عدة من الضفة المحتلة من جهة، والتظاهر ضد رئيس حكومتهم بنيامين نتنياهو من جهة أخرى.
فمن لحظة إعلان استشهاد أشرف نعالوة وصالح البرغوثي، انطلقت «عمليات الثأر» سريعاً، في ازدواج واضح ولافت بين العمليات الفردية والمنظّمة، لتحصد في المجمل ثلاثة قتلى إسرائيليين ونحو أربع إصابات، منها اثنتان في حال الخطر، والأكثر إزعاجاً للعدو أن غالبيتهم من الجيش أو الشرطة. في الصباح الباكر، هاجم الشهيد مجد مطير (26 عاماً) بسكينه اثنين من شرطة العدو في شارع الواد في البلدة القديمة في القدس، ليصيبهما قبل أن تُطلَق عليه النار ويُستشهد بعد تركه ينزف نحو 40 دقيقة، فيما نعته حركة «فتح» وقالت إنه من سكان مخيم قلنديا في القدس. بعد ساعات، نفذ فلسطينيان اثنان على الأقل هجوماً عند مفترق مستوطنة «غفعات أساف»، شرق رام الله، المنطقة التي تبعد نحو كيلومترين فقط عن موقع عملية «عوفرا» (شارك فيها الشهيد البرغوثي)، ليسقط فوراً جنديان قتيلان من لواء «ناحال»، ويعلن في وقت لاحق مقتل الثالث وبقاء جريح رابع بإصابة خطيرة. والصدمة التالية كانت فقدان سلاح أحد القتلى، إذ فتشت كل السيارات المحيطة بالمنطقة ولم يجدوا له أثراً، فضلاً عن أن أياً من الجنود لم يطلق رصاصة واحدة.
«كتائب القسام»: لا يزال في جعبتنا الكثير مما يسوء العدو ويربك حساباته


من هنا، بدأت العملية العسكرية في رام الله التي كانت في حالة إضراب عام، واشتعلت المواجهات المستمرة، فيما أعلن العدو الاستنفار للبحث عن منفذي العملية. وفي المساء، أطلقت قوات العدو النار على سيارة كان يقودها رجل الأعمال حمدان العارضة (60 عاماً) في البيرة، وهو من سكان بلدة عرابة (جنين)، متهمة إياه بتنفيذ عملية دهس أصيب فيها جندي، كما أطلق العدو النار على مركبة أخرى قرب قرية كفر عقب شرقي البيرة، حيث أصيب أحد المستوطنين، واستطاع قائد السيارة الفرار من المنطقة التي كانت تعج بالمستوطنين.

«صراع في الظلام»
ساعات قليلة هي التي فصلت بين عملية لقوة خاصة (مستعربين) في قرية سردا، شمال رام الله، واقتحام قرية كوبر، وبين إعلان العدو وصوله إلى المطلوب أشرف نعالوة بعد 65 يوماً من الملاحقة، متحصّناً في منزل في مخيم عسكر في مدينة نابلس (شمال) بعيداً من مدينته، طولكرم، حيث تركز البحث الإسرائيلي طوال الشهرين الماضيين، وهو ما يسلط الضوء على نجاح كبير ضمن واقع الضفة اليوم، في الانتقال لمسافة تزيد على 50 كلم والاختباء عن جيش وأجهزة أمنية إلى هذه المدة.
لكن أشرف لم يسلم نفسه، وخاض قبيل الفجر اشتباكه الأخير مع القوة الخاصة التي احتجزت جثمانه مثلما فعلت مع جثمان الشهيد صالح البرغوثي الذي اختطف وفق شهادات العيان حياً من سردا، ليعلن العدو أنه تم «تحييد» جزء من منفذي عملية مستوطنة «عوفرا»، وتصفية منفذ عملية «بركان» الذي كان يقرأ في ساعات اختفائه كتاب «صراع في الظلام»، الذي أصدرته دائرة تابعة لحركة «حماس» ويتحدث عن كيفية مواجهة الاعتقال وطرق التحقيق والصمود خلالها.

حساب جديد مفتوح
هكذا، لم يستطع قادة العدو أو إعلامه الحديث عن «إغلاق الحساب» مع منفذي العمليتين الأخيرتين حتى فُتح حساب جديد، وبدأ البحث عن منفذي إطلاق النار في «غفعات أساف»، الذين قدّرت مصادر عبرية أن يكونوا من «خلية عوفرا» نفسها. وبغض النظر عن النتيجة المقدرة للعملية العسكرية الإسرائيلية الحالية، جرياً على عادة اكتشاف المنفذين والاشتباك معهم، فإن نجاح ثلاث عمليات إطلاق نار على التوالي مع لازمة انسحاب المنفذين من المكان وبدء عملية مطاردة، باتت تمثل السيناريو الأسوأ للعدو، خاصة أن العمليات الفردية الأخيرة كانت تنتهي غالباً باستشهاد المنفذين أو اعتقالهم في مكان التنفيذ. أيضاً، مثّلت السرعة في الرد، واستعمال التكتيك نفسه رغم الاستنفار الإسرائيلي، تحدياً كبيراً للعدو.
وما يوحي ببدء مرحلة جديدة هو البيان الصادر بسرعة عن «كتائب القسام»، الذراع العسكرية لحركة «حماس»، إنْ لجهة تبنّي الشهيدين نعالوة والبرغوثي، أو لجهة الإشارة إلى عمليات أخرى، إذ قالت «القسام» إن مقاومتها «ستظل حاضرةً على امتداد خريطة الوطن، ولا يزال في جعبتنا الكثير مما يسوء العدو ويربك كل حساباته»، مضيفة: «جرّع أبطالنا الاحتلال الويلات بتنفيذ عملياتهم الموجعة رداً على الاعتداءات اليومية من قوات الاحتلال وقطعان المغتصبين الذين يستبيحون الضفة الغربية المحتلة ويعيثون فيها فساداً... جمر الضفة تحت الرماد سيحرق المحتل ويذيقه بأس رجالها الأحرار من حيث لا يحتسب العدو ولا يتوقع».
وبينما أقامت «حماس» في غزة بيت عزاء لشهداء الضفة الثلاثة، قال رئيس مكتبها السياسي، إسماعيل هنية، إن «الضفة... تتغير، والسنوات العجاف التي عاشتها الضفة أزف رحيلها، وهناك صفحة جديدة مع المحتل فتحت بالدم والشهادة والبارود والنار».
في الوقت نفسه، أصدرت غالبية الفصائل والأذرع العسكرية بيانات تأييد للمقاومين في الضفة، داعية إلى المزيد منها وأيضاً إلى وقف التنسيق الأمني بين السلطة والعدو. أما حركة «فتح»، فقالت إن «استهداف قوات الاحتلال ومستوطنيه لشعبنا، عبر تصعيد الاعتداءات والتصفية والاعتقالات، وآخرها التهديد والتحريض على قتل سيادة الرئيس محمود عباس، لاقت الرد الفلسطيني». ودعت إلى «تصعيد المواجهة الجمعة (اليوم) في كل الضفة»، وإلى «اليقظة التامة وتفعيل لجان الحراسة للدفاع عن قرانا»، كما قال البيان: «ندعو شعبنا للوعي وحرمان هذا الاحتلال أي معلومات مجانية من خلال كاميرات المراقبة المنتشرة التي تخدم أغراض الاحتلال وعبر تناقل المعلومات والصور عبر وسائل التواصل».
إلى ذلك، التقى رئيس السلطة محمود عباس، في مقر الرئاسة في رام الله، وفداً من جهاز «المخابرات العامة» المصري، ناقلاً إليه رسالة من الرئيس عبد الفتاح السيسي ورئيس المخابرات اللواء عباس كامل. وحضر الاجتماع من الجانب الفلسطيني رئيس «هيئة الشؤون المدنية» حسين الشيخ، ورئيس «المخابرات العامة» اللواء ماجد فرج، وقائد جهاز «الأمن الوقائي» اللواء زياد هب الريح، فيما لم تتضح مجرياته بعد، وعلاقته بالأحداث القائمة.