في الأعوام القليلة الماضية، شكّلت الأزمات المتتالية بين نقابة التعليم الثانوي ووزارة التربية، أبرز الخلافات في البلاد. لا يكاد يخلو عام دراسي من إضرابات واحتجاجات وصلت إلى حدّ التخلي، كما في العام الماضي، عن وزير التعليم السابق، ناجي جلول، بطلب من النقابة. هذا العام لم يكن استثناءً، فرغم تحقّق عدد من المطالب، صرّح الكاتب العام لـ«الجامعة العامة للتعليم الثانوي»، أسعد اليعقوبي، في نهاية الصيف، بأن السنة الدراسية «ستكون ساخنة». كان الأمر كذلك، فعقب جلسات تفاوض فاشلة، طالبت خلالها النقابة بمضاعفة بعض المنح وخفض سنّ الإحالة على التقاعد من 60 عاماً إلى 57 (بشرط تحقق 35 عاماً من العمل الفعلي)، نُفذ إضراب خلال يوم، وأعلن اليعقوبي أن جميع أشكال التصعيد مطروحة، ومن بينها «عام دراسي أبيض»، ثم نُفذ إضراب ثانٍ شمل أيضاً قطاعات أخرى من الوظيفة العمومية، ضمن تحرك أوسع لاتحاد الشغل.
لم يخفّ الضغط كثيراً، وباقتراب موعد امتحانات «الثلاثي الأول»، قررت النقابة مقاطعتها، وهو ما حصل بنسبة كبيرة، رغم أن عدداً آخر من الأساتذة لم يستجيبوا للدعوة التي اعتبروها خطوة مبالغاً فيها. رغم ذلك، تواصل التصعيد، حيث دخل عدد من الأساتذة في اعتصامات داخل «المندوبيات الجهوية للتربية» التي تنظم التعليم.
في الأثناء، يواصل الاتحاد العام التونسي للشغل مفاوضاته مع الحكومة حول رفع المعاشات في الوظيفة العمومية ككل، ويهدّد بشنّ إضراب عام يوم 17 كانون الثاني/ يناير المقبل، إن لم يجرِ التوصّل إلى حلّ يعوض خسارة الموظفين التي سببها التضخم. إذن، يبدو المسار التفاوضي مزدوجاً، بين نقابة التعليم الثانوي ووزارة التربية من جهة، والمركزية النقابية والحكومة، من جهة ثانية. هذه الازدواجية خلقت شرخاً بدأ في الأعوام الماضية، ويتشدد اليوم، بين المكتب التنفيذي لاتحاد الشغل ككلّ ومكتب النقابة. قبل أسابيع، رفض الأمين العام للمنظمة، نور الدين الطبوبي، فتح أبواب المقرات الجهوية للاتحاد أمام الأساتذة، حتى ينفذوا اعتصامات داخلها، كذلك رفض توفير دعم لوجستي لهم، لحشد الأنصار من كامل البلاد. أدى كل ذلك إلى توجّه متظاهرين يوم أمس إلى المقرّ المركزيّ للمنظمة في العاصمة، حيث رفعوا شعارات نددت بمواقف الأمين العام، وعدم دعمه لهم على النحو الذي يطلبونه.
يهدد «الاتحاد العام للشغل» بإضراب عام الشهر المقبل


من جهتها، تدافع وزارة التربية عن قراراتها بحجة الوضع الاقتصادي الصعب الذي تمرّ به البلاد، إذ ترفض رفع أجور الأساتذة بالشكل الذي تطلبه النقابة، وتهدد بحسم أيام الإضراب. أما في ما يخص مطلب خفض سنّ التقاعد، فتقول إن المسألة تتجاوزها وتشمل وزارات أخرى. ويجدر التنويه هنا، إلى أن الحكومة قدمت إلى البرلمان مشروعاً لرفع سنّ التقاعد بعامين إجبارياً وثلاثة أعوام اختيارياً، ويمكن أن يصل التمديد إلى خمسة أعوام أخرى (أي إلى سنّ السبعين)، وذلك ضمن خطة لإصلاح صندوقي التقاعد والضمان الاجتماعيّ اللذين يعانيان من عجز مزمن ونقص في السيولة.
أما الحكومة ككل، فقد وجدت نفسها في مأزق، إذ لا يمكنها ــ من جهة ــ رفع أجور الموظفين العموميين، نظراً لالتزامها ــ تجاه صندوق النقد الدولي (المقرض الرئيسي للبلاد) ــ خفض النفقات العامة، ولا تريد من ناحية ثانية خلق حالة عداء مع الاتحاد العام التونسي للشغل. ما يطرحه الجانب الحكومي حتى الآن هو الخفض في نسبة الضرائب على الرواتب، ما يعني رفعها عملياً، لكن يرفض اتحاد الشغل هذا الإجراء لأنه لا تترتب عنه زيادة يقع احتسابها في التقاعد.
ورغم أن المطالبات في القطاع العام هي أبرز التحديات التي تواجهها الحكومة، إلا أنه توجد أيضاً احتجاجات في قطاعات حرة. يطالب المحامون و«عدول الإشهاد»، وعدد آخر من القطاعات المرتبطة بهما، بالتخلي عن فصل ورد في قانون المالية للعام المقبل، إذ يقول هؤلاء إنه يهدّد السر المهني الذي يُعَدّ إحدى أهم خصائص عملهم، ويهددون بتصعيد احتجاجهم. من جهتها، تقول الحكومة وكتل برلمانية إن الفصل المعني يهدف إلى إضفاء شفافية أكبر على معاملات تلك القطاعات، التي تشهد تهرباً ضريبياً معتبراً، ولا يمسّ السر المهني، حيث ينص على حماية محتوى المعاملات بين المهنيين وزبائنهم.