زياد اشتيوي نور، ابنتي الصغيرة، شأنها شأن الكثيرين من أطفال مخيم نهر البارد الذين ولدوا في ظل نكبته وتهجيرهم منه، إما في مدرسة كانوا قد لجأوا إليها، أو حتى في مجرد باراكس (مستودع) حديدي، لم تشعر بدفء المنزل أو ما يعنيه ذلك حقاً. نور وأمثالها من الأولاد، سكنوا الباراكس وتآلفوا معه، رغم صعوبة ذلك، حيث إنه لا خيار ولا مكان آخر يلجأون إليه. هكذا، اضطر أهاليهم، ولأنهم لا يملكون تسديد إيجارات البيوت المرتفعة بالنسبة لميزانياتهم الضئيلة، الى السكن في مجمعات أنشأتها الأونروا على عجل، لتستوعب ما يمكن من عائلات البارد المنكوبة. كان قدري مثل قدر كثيرين أن أسكن في أول مجمع تم إنشاؤه. عرف يومها بمجمع الباراكسات الحديدية. وفي الحقيقة، وجدناه أفضل ألف مرة من السكن في مدرسة تحوي غرفة الصف الواحد أكثر من 5 عائلات، لا يفصل بينها سوى بعض البطانيات أو الشوادر.

كانت ابنتي نور دائماً تسأل «ليش رفقاتي إلهن بيوت وأنا عايشة بباراكس يا بابا؟» صغيرتي تركت بيتها في المخيم القديم إبان الحرب المدمرة على مخيم البارد، وكانت لم تكمل بعد السنة الأولى من عمرها. اليوم تبلغ صغيرتي من العمر سبع سنوات. عاشت خلال الأعوام الماضية متنقلة بين مدارس البداوي (كسائر نازحي مخيم البارد) حيث كانت تسكن في ... ممر المدرسة: تلتحف سقفها ويحيط بها ساتر من النايلون الأزرق. فتحت عينيها هناك على خليط من البشر من كل الأعمار يسكنون الصفوف، لا تكاد تعرف من هم، ولماذا هي هنا!
بعدها عاشت كل السنوات التالية في باراكس هو بيتها وملعبها وروضتها. باراكس مصنوع من الحديد لا يقي الحر ولا البرد. عندما بلغت سن النطق، غالباً ما كانت تسألني ببراءة «ليش هدموا بيتنا يابا؟» وأنا حقاً ليس لديّ ما أجيب به تلك الفتاة الصغيرة! كنت أكتفي بوضع يدي على رأسها الصغير، أداعب شعرها بحركة أحاول بها الهروب من جواب لن تفهمه.
كبرت نور، لكن السؤال بقي يراودها كلما مررنا من أمام المخيم القديم، حتى إني كنت أحاول متعمداً أن أسلك طريقاً آخر خوفاً من سؤالها المتكرر. سنوات النزوح الطويلة جعلت منها محبة للوحدة، لا ترغب باللعب مع أحد. حاولت أن أعوضها بألعاب «على قدّ الحال»، الى أن دخلت المدرسة بعد سنوات الروضة الثلاث. كانت تأتيني دائماً بدفتر الرسم، والذي لا يحتوي إلا على صورة واحدة تتكرر في كل حصة رسم: بيت صغير أمامه شجيرات تلونها بالأصفر دائماً، مع أني حاولت أن أفهمها دائماً أن الشجر لونه أخضر، لكنها كانت بالرغم من ذلك تستخدم اللون الأصفر. لا أدري لما هذا الإصرار على اللون الأصفر!
كبرت وكبر حلمها، لكنه ما زال بيتاً صغيراً أمامه شجيرات زادت عليه في السنوات الماضية سماء زرقاء وشمساً ساطعة وطريقاً معبدة وأرجوحة من حبال أمام البيت. حتى جدران الباراكس لم تسلم من رسومها، فأصبحت معرضاً لهذه الرسوم. خلال هذه السنوات الطوال، أصبح بينها وبين الباراكس علاقة عجيبة غريبة حيث لا تقوى على فراقه أبداً. غالباً ما كانت ترفض الخروج معنا للنزهة الى المتنفس الوحيد لأهل المخيم وهو البحر القريب! مع أني كنت أحاول إغراءها بشتى الوسائل: أنجح حيناً وأفشل أحياناً. حاولت مراراً استدراجها لمعرفة السبب، فكان جوابها دائماً «بس نرجع عبيتنا بطلع»! بالأمس، بُلّغنا أن بيتنا في الرزمة الثالثة انتهى إعماره، وبإمكاننا تسلّمه. كانت فرحتي كبيرة ليس فقط بالعودة الى البيت الذي هو بالنسبة إليّ مكاناً سيؤويني بعد عذاب الباراكسات وقرفها لأعوام، صيفاً وشتاء. كانت فرحتي مختلفة، حيث إن حلم نور سيتحقق أخيراً ببيت ربما يعني لها الكثير. أما أنا؟ فهو بالنسبة إليّ مجرد بيت جديد في مكان جديد ضاعت فيه معالم وأحلام وذكريات سحقتها أول جرافة مرت من هنا. جرافة جرفت معها كل الماضي الجميل الذي مهما حاولت البحث عنه بين شوارع «المخيم النموذجي» فلن أفلح أبداً بالعثور عليه. لكن نور ستجد حلمها في بيت كانت ترسمه في مخيلتها، لكنه بيت من دون شجيرات صفراء ولا خضراء. حملت مفاتيح البيت كمن يحمل مفاتيح الجنة وركضت مسرعة الى الباراكس وأنا أتخيل فرحة نور التي لم تكن تعلم بذلك.
صعدت الدرج الحديدي بكل ما أوتيت من قوة، فتحت باب الباراكس ووضعت المفاتيح خلف ظهري ودخلت متسللاً حتى لا أثير انتباهها، وجدتها منكبّة على كتابها تقرأ درساً جديداً. «خشخشت» لها بالمفاتيح وقلت لها «نور استلمنا مفاتيح البيت، صار عندك بيت بابا»! قفزت من على الكرسي وصاحت بأعلى صوتها «حبيبي يابا وأخيراً؟ صار إلنا بيت نسكن فيه زيّنا زيّ باقي العالم؟».
نعم حبيبتي. وأخيراً أصبح لنا بيت نسكنه، لكن بيتنا الذي يسكننا لم يعد ولن يعود. اختفى بيتنا مرتع ذكرياتنا وحلّ مكانه بيت سيكون لك ربما مرتعاً للذكريات، ولطفولة آن لها أن تستريح من تعب الغربة المتنقلة بين باراكس وباراكس وبين مخيم وآخر. غربة طالت سنواتها. فنحن يا صغيرتي في غربة ووجع دائم طالما نحن بعيدون عن بيتنا هناك على أرض الوطن.




لا يزال معظم نازحي مخيم نهر البارد ينتظرون بفارغ الصبر انتهاء إعمار مخيمهم، حيث الإعمار يسير ببطء شديد. فما تم إعماره حتى الآن يعادل 20% من مساكن المخيم، والتي تحتوي حسب تقسيم الأونروا على 8 رزم. تتذرع الأونروا بنقص تمويل الإعمار، حيث إن الدول المانحة لم تلتزم بما أقر في مؤتمر فيينا، إضافة الى الروتين المتبع والعقبات اللوجستية التي تعترض أحياناً سرعة العمل؛ ومنها موضوع الآثار وموافقة الحكومة اللبنانية على خرائط التنظيم المدني وما الى ذلك من عقبات. كل ذلك كان سبباً في هذا البطء، رغم ذلك لا يزال أهالي البارد يحدوهم الأمل بعودة قريبة الى منازلهم، حيث إن الكثير منهم مات وهو يحمل صفة نازح قبل أن يكحل عينيه مرة جديدة برؤية منزله وحارته