أفضل ما يتبقى من الثورات الأهداف التي تبنتها والأحلام التي أطلقتها وقدرتها الكامنة على إلهام الإرادة العامة. هذا شأن «ثورة 25 يناير» في مصر على رغم أية سجالات ونزاعات حول شرعيتها. التنازع على الشرعية يصاحب دوماً انكسار الثورات. حدث ذلك في كل التجارب الإنسانية الحديثة بلا استثناء واحد. من الخطأ الفادح النظر إلى الثورات على أنها محض مؤامرات وأحداث فوضى. إذا ما لخصت الثورة الفرنسية في مشاهد العنف المفرط والمقاصل التي علقت فإننا لا نكاد نعرف عنها شيئاً. كانت نقطة تحوّل فاصلة في التاريخ الإنساني، حيث أفضت إلى صعود طبقات جديدة وأفكار جديدة وذبول طريقة في الحكم تنتسب إلى القرون الوسطى الأوروبية. بعد سنوات طويلة من الاضطرابات والانتفاضات والانقلابات في بنية السلطة استقرت فرنسا كجمهورية دستورية حديثة وسرت مبادئها في أنحاء العالم. لم تكن تلك النقلة الكبرى منحة من أحد بقدر ما كانت أثراً محتماً لمبادئ الثورة. المبادئ لا المقاصل هي التي انتصرت في النهاية.الدساتير لا الفوضى هي من فرضت كلمتها. لعبت مبادئ الثورة الفرنسية، التي أسست لليبرالية والحريات العامة في التاريخ الإنساني الحديث، أكثر الأدوار إلهاماً في صياغة العهد الدولي للحقوق السياسية والمدنية الذي أقرته الأمم المتحدة.
كان ذلك أفضل ما تخلّف عن الثورة الفرنسية. بالقدر ذاته فإن أفضل ما يُنسب للثورة البلشفية في قلب الإمبراطورية الروسية عام 1917 أنها ساعدت على نحو جوهري في طرح قضية العدل الاجتماعي بأفق جديد غير مسبوق.
كانت أول ثورة اشتراكية في التاريخ الإنساني. ساعدت تجربتها بأوفر الأدوار في التأسيس للعهد الدولي للحقوق الاقتصادية والاجتماعية. تحت ضغط الأفكار الاشتراكية طورت الرأسمالية من نفسها، ونشأت في كنف الدول الغربية حركات جديدة أطلق عليها «الشيوعية الأوروبية» ـ بتأثير أفكار رجال من حجم تولياتي وغرامشي في إيطاليا ـ دمجت ما بين الفكرتين الاشتراكية والديموقراطية. نشأت في أوروبا الشرقية نزعة قوية أطلق عليها «الاشتراكية بوجه إنساني» تجسدت في «ربيع براغ» إثر وصول إلكسندر دوبتشيك إلى السلطة زعيماً للحزب الشيوعي التشيكوسلوفاكي.
تبنى تجديد الاشتراكية ونزع ثقافة الخوف وإشاعة الديموقراطية والحريات الصحافية، لكن مشروعه جرى سحقه بدبابات «حلف وارسو»، الذي كان يقوده الاتحاد السوفياتي، في آب/ أغسطس ١٩٦٨. أفلتت فرصة تصحيح في بنية المنظومة الاشتراكية، وكانت النهايات محتمة. من زاوية ما ـ صحيحة وموضوعية ـ أسست الثورة البلشفية، بكل ما حملته من تجربة في الحكم، وما توّلد عنها من سياسات وما تبنته من استراتيجيات لانقلاب كامل في بنية النظام الدولي بدأت مقدماته قبل نهاية الحرب العالمية الأولى بعام واحد واستكملت حقائقه بعد الحرب العالمية الثانية. انقسم العالم أيديولوجياً واستراتيجياً واقتصادياً إلى معسكرين كبيرين بعد انتهاء الحرب الأخيرة. تصارع على النفوذ قطبان عظيمان هما الاتحاد السوفياتي والولايات المتحدة في ما يعرف بـ«الحرب الباردة» التي انتهت بانهيار سور برلين وتقوّض «حلف وارسو» الذي كان يقابل حلف «الناتو» على الجانب الآخر.
في سنوات ما بين نهاية الحرب العالمية الثانية وانهيار سور برلين شمل نفوذ الاتحاد السوفياتي شرق أوروبا، التي اجتاحها «الجيش الأحمر»، والشرق الأقصى حيث انتصرت الثورة الصينية وحاربت الثورة الفييتنامية، واصلاً إلى القارتين الأفريقية التي طلبت حركات تحريرها الاستقلال الوطني، واللاتينية التي رفعت سلاح حرب العصابات ضد الهيمنة الأميركية ـ كما حدث في كوبا.
لم يكن العالم العربي خارج الاستقطاب الفكري والسياسي، الذي صاغ تلك المرحلة. حاولت مجموعة دول عدم الانحياز بقيادة جمال عبدالناصر ـ مصر وجواهر لال نهرو ـ الهند وجوزيب بروز تيتو ـ يوغوسلافيا اختراق النظام الدولي الثنائي القطبية وتأسيس آخر وفق مبادئ «باندونغ». استندت شرعية «ثورة 23 يوليو» على فكرة استقلال القرار الوطني التي تولدت عنها سياسات اجتماعية غيرت من بنية المجتمع المصري وتركيبته الطبقية وأفضت إلى أوسع حراك اجتماعي في تاريخه كله. استعصت «يوليو» على الحملات عليها بقدر الأحلام التي أطلقتها، أو وضعتها على أرض. لم تكن تجربة هشة حتى تقتلعها هبات ريح أو جموح عواصف. مشكلة «يوليو» الحقيقية أنها لم تؤسس لبنية دستورية تحفظ أهدافها ومبادئها التحررية والاجتماعية. هكذا أمكن الانقلاب عليها من داخل بنية نظامها. في أعقاب «يونيو 1967» دعا جمال عبدالناصر في مراجعاته الموثقة بمحاضر رسمية إلى المجتمع المفتوح ودولة المؤسسات وانتقد الأسباب التي أدت إلى الهزيمة وعلى رأسها ما أسماه «النظام المقفول» الذي تتحكم فيه مراكز قوى ونفوذ داخل مؤسسات الدولة الحساسة بلا رقيب ولا حسيب. من ثغرات «يوليو» جرى الانقضاض على مشروعها. «يوليو» الثورة المصرية الوحيدة التي حكمت وأخذت وقتها لإنضاج مشروعها واتسعت أدوارها في محيطها العربي وقارتها الأفريقية وعالمها الثالث. حاربت وحوربت، انتصرت وانكسرت، لكن ما تبقى من قيم ومبادئ كرستها يظل ملهماً ومؤثراً في المخيلة العامة على رغم الطعنات التي لا تتوقف. لم يكن ذلك هو مسار الثورة العرابية، التي اكتسبت شرعيتها من رفض التمييز ضد المصريين، فقد تعرضت للإجهاض المبكر بالعمل العسكري البريطاني عام 1882، الذي أفضى إلى احتلال مصر لأكثر من سبعين سنة.
كما لم يتسنّ لـ«الوفد» حزب الغالبية الشعبية الذي تأسس في خضم ثورة 1919 أن يحكم مصر إلا لسنوات قليلة متقطعة في ثلاثة عقود سبقت ثورة «يوليو». ثورة 1919 اكتسبت شرعيتها من هدفيها الرئيسيين: الاستقلال والدستور.
جرى الالتفاف على الأول والتلاعب بالثاني. ألغي دستور 1923، إنجازها الأبرز، بانقلاب ملكي ووضع دستور جديد في 1930، سرعان ما سقط بقوة الرفض الشعبي. عاد دستور 1923 غير أن التلاعب به لم يتوقف. أفضى ذلك في النهاية إلى إطاحة النظام الملكي كله. ليست هناك في التاريخ الإنساني الحديث ثورة واحدة مثالية مبرأة من الأخطاء والخطايا.
هذه نصف الحقيقة وليست الحقيقة كلها، فقد كانت نقلات كبرى أخذت شعوبها إلى آفاق جديدة واحتفظ التاريخ الإنساني بإلهامها عبر العصور. الإلهام هو جوهر ما يتبقى من الثورات. إنها مسألة روح عامة يصعب نفيها، أو تجاوزها.
وقد كانت «ثورة يناير» ملهمة لفكرة الانتقال من عصر إلى عصر والتحوّل إلى دولة مدنية ديموقراطية حديثة. لكل ثورة أسباب استدعتها تعبيراً عن أزمان وعصور واحتياجات. كانت ثورة 1919 بنت ما بعد الحرب العالمية الأولى وارتفاع نداءات حق تقرير المصير، وثورة 1952 بنت ما بعد الحرب العالمية الثانية وطلب التحرر الوطني والعدالة الاجتماعية.
«ثورة يناير» (2011) هي بنت هذا الزمان ثورة المعلومات والاتصالات الحديثة، ولا أحد بوسعه أن يتحدى حقائق زمانه، أو أن ينكر إلهامها تحت الجلد السياسي والاجتماعي مهما طال الزمن.
* كاتب وصحافي مصري